العــدد 9289
الإثنـــــين 11 شـــباط 2019
أولاد الحيّ يدورون ويدورون . . أصواتهم تتعالى بفرح: (توت، توت)، تستوقفني تلك الموسيقى الكونية وهم ينشدون الضياء بأصواتهم الملائكية، كيف خطرت ببالهم لعبة القطار ذاتها التي رافقتنا لسنوات طويلة؟
اي محطات للسعادة والحبّ خبّأناها في ذاكرتنا ولأي سبب أصبحت كلمة (القطار) تتناسب عكساً مع إحساسنا بالدفء والأمان؟
في طفولتنا كانت معظم قطاراتنا زرقاء بهيّة، أو حمراء قانية، مع كل نافذة حكاية، وفوق كلّ سكّة طاقة ورد، وحين كبرنا رحلت الألوان من قطاراتنا، أصبحت معظمها سوداء بنوافذ مكسورة، وأصبحنا نردد بخوف وحزن: قطار العمر ماضٍ في طريقه إلى النهاية . .
قطار الزواج يخلّف وراءه الكثيرات في فضاء من البرد والوحشة..
في بيت ريفيّ جميل، وبجوار سكّة القطار، كانت تسكن إحدى صديقاتي، وبالرغم من تصدّع جدران المنزل والضجيج الذي كان يخلّفه القطار أثناء مروره نشأت علاقة صداقة حميمية بين أصحاب المنزل والقطار، وأخبرتني مراراً أنه أصبح جزءاً لا يتجزّأ من حياتهم اليومية، وأنهم يفتقدونه إن حدث طارئ وغيّر مواعيده!
انتقلت صديقتي للسكن في المدينة، وقالت بحزن أنها لا تزال تحمل صدى هذه الصداقة الغريبة تحت وسادتها وفي أحلامها أحياناً، وتنتظر كل ليلة مرور ذلك الصديق القديم فوق سكّة الذاكرة حاملاً معه رائحة عطر الربيع وشجون المطر.
اليوم، وبعد سنوات طويلة، وأيام غابت فيها قطارات كثيرة بسبب الحرب، كم نفتقد أصدقاء وأحبّة غيّبهم السفر أو الموت، كم نفتقد قطاراً طفولياً أزرق، وصوتاً دافئاً يبدّد برد المسافات وينشد معنا: (توت . . توت)!
منى كامل الاطرش