قراءة عقلانية في مشروع محمود باكير لهندسة هوية سوريا المستقبل

الوحدة – د. رفيف هلال
في مؤلفه الجديد “هندسة الهوية الوطنية، سوريا المستقبل”، يقدّم الباحث محمود باكير مقاربة فكرية غير تقليدية لمسألة الهوية الوطنية السورية، مستعيناً بأدوات التفكير العلمي والمنطقي التي تقترب من أسلوب التحليل الرياضي، ليعيد عبرها تعريف الانتماء والمواطنة في سياق علمي وعقلاني.
يرى باكير أن الحديث عن الهوية في سوريا لا يمكن أن يُختزل في الشعارات أو الانفعالات السياسية، بل يجب النظر إليها كبنية معرفية قابلة للهندسة، تتفاعل فيها العناصر الاجتماعية والثقافية والدينية ضمن علاقات متوازنة ومتّسقة، تماماً كما يتعامل الرياضي مع منظومة معقّدة تسعى إلى الاتساق الداخلي.
ومن هذا المنظور، يربط المؤلف بين الهندسة الفكرية للهوية وضوابط المصلحة الشرعية في الفقه الإسلامي، التي تقوم على مبدأ ترجيح الخير ودفع الضرر، مؤكداً أن تحقيق التوازن بين مكوّنات المجتمع هو ما يضمن استمرار الدولة واستقرارها.
يذهب باكير إلى أن ما شهدته سوريا خلال العقد الأخير لم يكن أزمة في الانتماء فحسب، بل أزمة وعي بالهوية ذاتها، إذ غاب المشروع القادر على إعادة تعريف المواطنة في ضوء معايير عقلانية، ما أدى إلى ما يسميه “تصحّراً وطنياً” و”أمية في الانتماء”. فبدلاً من معالجة الجذور الفكرية للأزمة، انشغلت السياسات بمعالجة مظاهرها السطحية، فازدادت الهوة بين المواطن والدولة.
ويشدّد باكير على أن الهوية الوطنية ليست شعاراً يُرفع عند الأزمات، بل هي منظومة فكرية متكاملة، تُبنى على الإدراك الجمعي للعلاقات داخل المجتمع. فالهوية، من وجهة نظره، لا تنبع من دراسة المكوّنات منفصلة، بل من فهم طريقة تفاعلها وتكاملها.
يقدّم المؤلف تشبيهاً لافتاً بين الهوية الاجتماعية والعمرانية لدمشق القديمة ومفهوم «البنية» في الفلسفة البنيوية، موضحاً أن طابع المجتمع يتحدد بعلاقاته الداخلية أكثر من طبيعة أفراده، فالبيوت الدمشقية، التي تنفتح بفخامتها نحو الداخل وتكتفي ببساطة واجهاتها الخارجية، تعبّر عن وعي اجتماعي يوازن بين الخصوصية والانسجام، بين الانفتاح والحفاظ على الذات.
يرى باكير أن تجاوز أزمة الهوية في سوريا يحتاج مشروعاً معرفياً وتربوياً يعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، من خلال منظومة تعليمية حديثة تعزز قيم الانتماء والمسؤولية، وتستبدل الخطاب القومي التقليدي بمفاهيم جديدة قائمة على المواطنة والمصلحة الوطنية.
كما يدعو إلى قطيعة معرفية مع الماضي من أجل تأسيس هوية وطنية جامعة ترتكز إلى العلم والعقلانية، بحيث تصبح المصلحة الوطنية المعيار الأسمى لكل فعل سياسي واجتماعي. ويستشهد في هذا السياق باجتهادات فقهية معاصرة، من بينها آراء الفقيه الراحل محمد الزحيلي التي تؤكد مركزية تغليب المصلحة العامة في بناء الوعي الجمعي.
يُعد كتاب “هندسة الهوية الوطنية سوريا المستقبل” محاولة فكرية جريئة لإعادة التفكير في مفهوم الهوية من منظور علمي وإنساني. إنه دعوة لإطلاق نقاش معرفي جديد حول مستقبل الانتماء السوري، يزاوج بين العقل الرياضي والمنطق الفلسفي والرؤية الدينية المنفتحة، في سبيل إعادة بناء الذات الوطنية على أسس من الوعي، والتوازن، والمصلحة المشتركة.
صدر الكتاب عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة عام 2025، ويقع في 248 صفحة من القطع المتوسط، حاملاً مشروعاً فكرياً يسعى إلى هندسة وعي جديد لسوريا، يضع الإنسان في قلب المعادلة الوطنية.

تصفح المزيد..
آخر الأخبار