الوحدة – رنا عمران
يرى الشاعر والأديب أوس أسعد أن الكتابة فعل دائم من الدهشة والتكوين، يلتقط من خلالها الشاعر نبض الجمال في لحظته الأولى. في هذا الحوار، يبوح أسعد بعلاقته بالكلمة، وبكيفية الموازنة بين الأدب والصحافة، وباللحظات التي شكّلته كاتباً، كما يتحدث عن الأمل ودور المثقف في زمن التيه.
جواباً على سؤالنا: كيف تصف علاقتك بالكلمة؟ هل تراها خلاصاً أم عبئاً يحمّلك مسؤولية أكبر أمام الناس والتاريخ؟
أجاب: قيل إنّ الكون وُجد بعد تلقّيه صفعة فعل الأمر “كن”، أمّا أنا فأعتقد، متسلّحاً بأدوات الشكّ، أنّه وُجد كفعلٍ راقصٍ من تزاوج ذكورة الشعر بأنوثة الماء في لحظة انخطافٍ وجودي لم تعِ ذاتها إلّا فيما بعد. حيث لم تكن ثمّة كلمات بعد، بل فعل كيميائيّ فيزيائيّ مزهر هو من أوجد لوحة الجمال الأخّاذ التي ندعوها الكون “السيمفوني”. وما أن تشكّلت لوحة الخلق هذه في لحظة إبهارٍ قصوى من فعل التزاوج الهارموني السابق حتى كان لابدّ من التعبير عن دهشة التلقّي الأوّليّ، فأتت الكلمة للتعبير عن هذا الفعل. وهذه اللحظة هي فعل ديمومة دائم التشكّل، لا ينطفئ في كلّ لحظة، ومن غير الشاعر جدير بالتقاط نبض هذه اللحظة في انبثاقها الطريّ! هذا ما سعيت إليه منذ دهشتي الأولى بوجودي وما أزال، أن ألتقط بذخ اللحظة البكر غبّ انبثاقها من فم الينبوع، مهجوساً بفعل تلقّي الجمال وإعادة إنتاجه، وتلك هي مسؤوليّة الشاعر الأولى أمام نفسه وأمام الآخر/الناس، التاريخ/ أن يكون منتجاً للجمال وحسب.
كثيرون يرون الصحافة تسرق الكاتب من أدبه، فهل وجدتَ في تجربتك توازناً بين الاثنين؟
أجاب أسعد: يكفي الصحافة فخراً ذاك اللقب البهيّ الذي وُسِمت به بأنّها “صاحبة الجلالة” أو السلطة الرابعة التي تدير شؤون ووعي البلاد والعباد، إلى جانب أنّها إحدى وسائل التواصل الاجتماعي الخيّرة إذا استُثمرت بالطريقة الحضارية السليمة دون وصايات أو تابوهات أو خطوط حمر. وأعني هنا الصفحات الثقافية في الصحافة الورقية والإلكترونية، أي أن تظلّ فعلاً من أفعال الحرية المفتوحة السقوف. حينها ستؤدي وظيفتها التثقيفية التوعوية الجمالية المرجوة، وذلك من خلال امتلاكها لحرفية الأداء ولغة وسيطة شفيفة سهلة التناول والتلقي. وهذا هو بالضبط ما يعطيها مرونة إيصال المعلومة الموثوقة للآخر. فالصحفي مهمّته اكتشاف تلك اللغة الوسيطة التي تنقذ الصحافة بشكلها الكلاسيكي من جفافها وتطعّمها بالحيوية المطلوبة ليتم تلقيها بشغف من قبل المتلقي كوجبة دسمة. وقد حاولت في موادي المنشورة عبر الصحافة منذ بداياتي في الصحف والمجلات المحلية والخارجية والمواقع الإلكترونية فيما بعد، أن أتقن امتلاك هذه اللغة ذات المحمول الجمالي قدر الإمكان، سواء في موادي النقدية الأدبية أو الثقافية عموماً. وأزعم أنّني لم أجد أيّ تعارض بين الكتابة الإبداعية والصحفية عبر مزاوجتي بين الحالتين، حريصاً على ألّا تفقد المادة المنشورة بريقها الجمالي، سواء أكانت صحفية بموضوع ثقافي، أو إبداعية، وتحافظ على أقصى جودة فنية، ومن قرأ المواد هو من يحكم ولستُ أنا.
وجواباً على سؤالنا عن اللحظة أو التجربة التي شعر فيها أنّ الكتابة غيّرته حقّاً، قال:
لا أدري إن كان يمكننا الفصل بين لحظة الكتابة كفعلٍ ورقيّ، وبين لحظة تخمّرها وتطهّرها وانكتابها في المخيلة ومن ثمّ نضجها المعرفي قبل اندلاقها على البياض. فكلاهما متلازمان باعتقادي، وكلاهما ينوجدان معاً في آن واحد. ومن هنا يصعب القول إنّ لحظة الكتابة أو تجربتها قد غيّرت صاحبها في توقيت معيّن. فكائن الكتابة هو كائن التغيّرات والمحو والحذف والاصطفاء والتقلّبات الدائمة المتوالدة والمتزامنة والمتوافقة مع كلّ لحظات الحياة. فهو ينكتب في لحظات الكتابة التي يُكتب بها، وأنا شخصيّاً أعي أنّ ما أكتبه كان منتجاً سابقاً في الداخل نتيجة فعل التثقيف الدائم قبل تصديره مادة عامة للقراءة التفاعلية.
وأجاب عن سؤال: حين تكتب، هل تكتب من أجل التغيير أم من أجل البوح والنجاة الذاتية؟
أجاب: شكراً للسؤال الجيد آنسة رنا، الذي ينقلنا من الخاص إلى العام، ومن الفردي إلى الاجتماعي. فالكتابة فعل احتراق وتطهير وتغيير ذاتي بلا شكّ، مصقول بوفرة التجربة الحياتية والثقافية والوجودية عموماً. كما أنّها فعل تطوريّ تراكميّ يسعى دوماً لتجاوز ذاتيته عبر التشاركية مع هموم وهواجس الآخر الذي نعيش معه في وسط واحد، حيث تربطنا وإيّاه هموم وأهداف واحدة. ومن هنا، فالتغيير الذاتي الحادث لا محالة نتيجة التراكم السابق كما قلت، سيكون له منعكسات جيدة على الآخر ولن يبقى مجرّد تنفيس أو بوح شخصي، بمجرّد أن يعي الكائن أنّ وجوده الذاتي هو وجود جزئي ضمن الكلّ العام. والأديب أو الكاتب عموماً، شاء أم أبى، هو كائن اجتماعي صاحب رسالة وهدف، حتى وإن لم يكن يعي ذلك. وبمقدار تثقيفه لذاته، فإنه يستطيع أن يُحدث فعلاً من أفعال التغيير بشكلٍ ما في الآخر.
والفعل الإبداعي هو فعل جمالي بالدرجة الأولى، ومن ثمّ اجتماعي. وكلمة “نجاة” هنا كلمة معبّرة تؤكّد أنّ الكاتب يكتب خوفاً من احتراقٍ داخليّ قد يلتهمه، نعم هو كذلك أيضاً، إذا لم يقله فسيحترق به ويترمّد دون أثر يُذكر.
وقال حول أعماله التي يشعر أنّها الأقرب إلى روحه:
شخصيّاً لم أكتب ديواناً شعريّاً أو مادة نقدية أو ثقافية من دون حبّ قد يصل إلى حالة الشغف بالموضوع الذي أتناوله، وبهذا المعنى كلّها تعنيني. لكن لديوان البدايات الشعرية الأولى في نهاية التسعينات، وأقصد هنا العمل الشعريّ الأوّل لي والذي طبعته بفرحٍ شديد ممتحناً به شغفي بالحياة كشاعر، وهو بعنوان: “للوردة…. لـ…؟ لبقايا الخراب”، مكانته المائزة لأنّه كان حصيلة قلقٍ كبير وتأنٍ طويل من الاختمار المطمئن نسبيّاً لأدواته الشعرية، وبأنّ جماليّات مضامينه تمثّلني تماماً كصوت خاص له تجارب سابقة لم تُنشر في الكتابة الشعرية بأنماط مختلفة. وقد زاد اطمئناني راحةً ما حقّقه من صدى إيجابي لدى المشتغلين بالنقد الأدبي وبالشعر. وثمّة ديوان آخر يمتلك خصوصية عاطفية بمعناها الأبوي الراقي، وعنوانه “سوناتا، عذوبة تبعثر الكستناء” وهو اسم ابنتي، وسبب أهميته بالنسبة لي كما أرى ليس بحاجة للتوضيح.
وعن الذي يمنحه الأمل والاستمرار في الكتابة وسط ما يعيشه العالم من ضجيج وإحباط، قال:
الحياة، عزيزتي، مليئة بالمطبّات والحفر العميقة، والتي قد يكون أعمقها حُفر الإحباطات الوجودية المترافقة مع الأسئلة الأكثر جوهرية حول مغزى الحياة عموماً. ولكنّني منذ طفولتي الأولى آمنتُ أنّ الطريق إلى الجنّة معبّد بالأشواك، لكنّني تابعت المشي مقتدياً بالمأثورات التاريخية الكثيفة المعنى والتأثير، والتي تعكس قوّة الإرادة لدى الإنسان في رحلته المحفوفة بالمخاطر أمام محن الحياة وامتحاناتها الشديدة الوعورة أحياناً. وقد انفرد مأثور منها بوقع خاص في نفسي وهو: “الضربات التي لا تقصم ظهرك تقوّيه”، والذي يتقاطع مع مأثور آخر أتمثّله تماماً، يقول: “إذا هبتَ شيئاً فقعْ فيه”. وهناك من قال إنّ الأمل هو آخر الشرور، ولكنّنا محكومون به حسب مقولة المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس، وهنا تكمن المعضلة، فهو مصدر فرحنا وتعاستنا بآنٍ معاً. والكتابة واستمراريتها هما حصيلة وخميرة تلك الجراح الوجودية جمعاء.
وقال عن نظرته إلى دور الكاتب اليوم في الدفاع عن القيم والهوية والثقافة:
نحن نعيش اليوم أردأ مرحلة عاشتها البشرية عبر تاريخها الطويل، باعتقادي، في ظلّ نظام التفاهة العالمي ذي القطب الواحد، الذي تقوده عصابات مافيوية وأشخاص متوحشون بكفاءاتٍ معدومة. وأنا شخصيّاً لا أعوّل عليه كثيراً، لكنها عاصفة هوجاء أحدقت بالجذور وكادت تقتلعها من أعماقها، وعصفت بالثوابت والهويات والأوطان والانتماءات وكادت تدمّرها. وأرجو مرورها السريع لتعبر البشرية ونعبر معها إلى برّ الأمان. وبهذا المعنى، فإنّ دور المثقف والأديب، في أحد تجلياته، يبدو خفيفاً ومتواضعاً لأنّه تأثّر أكثر من غيره بأمواج الاقتلاع المتلاحقة. وجلّ ما يستطيعه هو المحافظة على ذاته من ألّا تتمزّق أكثر في هذه المرحلة القاتمة السواد على الصعيد العالمي عموماً.
أخيراً، إجابة على سؤالنا: لو عدت إلى بداياتك، ما النصيحة التي كنت ستوجّهها لنفسك، إلى الشاب الذي بدأ لتوّه رحلته مع الكلمة؟
أجاب: حقيقة أنا سعيد لأنّها فرضية غير قابلة للتحقيق، أي العودة إلى البدايات، إلّا عبر الذاكرة المستعادة، لأنّها كانت ستربكني كثيراً، بسبب محبّتي لتكرار الكثير منها. حيث كنت سأذهب مثلاً من جديد إلى تبنّي الأفكار المتطرفة بالمعنى الثوري، إلى حدّ التماهي معها، حيث كنت أتشبّه بالثائر جيفارا. كذلك كنت سأوغل في إرهاق نفسي بالتجارب المختلفة، لأنّني كائن يرفض أن يتبنّى أيّ شيء دون تجريب، مهما كانت النتائج المترتبة عليه، والتي كادت توصلني إلى حدود الكارثة أحياناً. ولكن من جانبٍ آخر، لو حدث ونجحت فعلاً في العودة إلى تلك المرحلة الذهبية، ولو عن طريق الذكاء الاصطناعي مثلاً، لكنت جنّبت نفسي الكثير من الإدانات الذاتية وجلد الذات، وقضاء الوقت الطويل في التفكير العاطفي بأشياء لا تستأهل ذلك. ولكنت قرأت الكتب النوعية المهمة بتأمّل وهضم كبيرين وليس للاستعراض الثقافي، ولعشت متعاً حسية أكثر، انطلاقاً من قناعة تقول إنّ الممارسة الفعلية للكلمات تتمّ عبر تذوّق وامتحان شعريتها على أرض الواقع، لا عبر التنظير الرومانسي للمتانة النفسية وتحصين الذات تجاه المغريات والمتع الطبيعية التي تضجّ بها حديقة الحياة.
لكم ولجريدة الوحدة جزيل الشكر والمودّة.