العــــــــــــــدد 9286
الأربعــــــــاء 6 شـــباط 2019
خلق الله تعالى نمطين من أنواع البشر في هذه الدنيا، فالنمط الأول هو فئة الانفعاليين وأصحاب الإحساس اللطيف، والظل الخفيف، وهم يميلون للتعبير عن أغلب مشاعرهم بسرعة، وبشكل مبالغ فيه، ويمكن تصنيفهم بأنهم من أصحاب الإرادة الضعيفة، والمشاعر الرقيقة، والعاطفة الفائضة، ويستحقون فعلاً العون والمساعدة وحتى الشفقة، وأما النمط الثاني فهم من نشعر تجاههم بالحذر والحيطة، وحتى الرهبة والخوف، فهم أشخاص لا مكان عندهم لأية عواطف أو حتى مشاعر، ويتصرفون مع عموم الآخرين بكل قوة وصلابة، وصولاً إلى التسلط ومحاولة التحكم بالآخرين، كما أنهم غالباً ما يتشددون في تطبيق أحكامهم وقواعدهم على عموم المحيطين بهم بكل صرامة وقسوة.
ويختلف الناس عموماً في نظرتهم إلى هذين الصنفين من البشر، فهم غالباً ما يفضلون نظرائهم والشبيهين بهم، ولكن أحياناً أيضاً يفضلون نقيضيهم، والمختلفين عنهم.
وبشكل عام فالمجتمع البشري أيضاً يحتاج إلى كلا الصنفين ليحفظ سلامته وصحته، واستمرارية حياته، ومن الملاحظ أن الآباء والأمهات ينتمون في الغالب إلى الصنف الثاني، وأما جيل الأجداد فينتمون إلى الصنف الأول، ولهذا فإن وجود الأجداد في العائلة يضفي سعادة وغنى وحميمية على البيئة المنزلية، ويخلق توازناً مقبولاً ما بين النمطين القاسي الشديد والحنون المتسامح.
وتتباين آراء عدد كبير من البشر حول تفضيل صنف عن آخر، وكأنهما فريقان متضادان ومتنافسان ومتخاصمان، رغم أنهما صنفان متكاملان أكثر من كونهما متعاكسين.
وبالنظر إلى عموم الأسر المجتمعية التي كانت تعيش قبل عقود في بيئة شرقية، فلقد كانت تشمل الجد والجدة والأب والأم، إضافة إلى عدد كبير من الأولاد من مختلف الأعمار، وكان لكل جيل من هذه الأجيال الثلاثة دور مهم وأثر بارز وحيوي ومفصلي، في حياة هذا الكيان المجتمعي، فالأجداد هم يمثلون الجزء العطوف والحنون، والآباء والأمهات هم المسؤولون عن تطبيق النظام، وأما الأولاد فكانوا يترعرعون ضمن جو متوازن، وبيئة مستقرة، وسعادة غامرة، وكل هذا كان يساهم في خلق وتنمية أجيال سليمة، وصحيحة بالروح والجسد، وغنية بالفكر والثقافة.
ومع مرور الزمن وصولاً إلى أيامنا هذه، فلقد أصبحت أغلب البيوت منفصلة عن بعضها، ومنسلخة عن واقعها وجذورها وبيئتها، وفقيرة في عواطفها ومشاعرها الإنسانية، وشحيحة في عطائها وتضحياتها، وسطحية في تربية أجيالها، وضحلة في ثقافتها ومعدل مخزونها الفكري، وهذا ما أدى بدوره إلى انتشار ظاهرة عدوانية البشر، وتزايد النزوات في استعباد الآخرين، إضافة إلى شبه انعدام مشاعر الرحمة، و فَقد أحاسيس الإنسانية والإخاء، و قيم البشرية السمحاء.
ومن الملاحظ بعد كل ما تم ذكره آنفاً، أن هذا هو النتيجة النهائية والطبيعية لتنامي ظاهرة العولمة، والتوجه المادي البحت، الذي سيطر على تفكير البشر وعقول الناس، فالإنسانية تسير إلى مزيد من الفقر الروحي والفكري والعاطفي قبل الفقر المادي، وتسير أيضاً إلى المزيد من القسوة والعدوانية، والعزلة والتقوقع والتفكك المجتمعي.
يقول الكثيرون: إن كل شيء في هذه الدنيا إذا كثُر رخص، ما عدا العقل فإنه إذا كثُر غلا، ويؤمنون بأن لا شيء في هذا الكون يبدأ جميلاً وينتهي جميلاً، فأغلب الأشياء مثل الزمن والحب والعمر تكون ثنائية شدة الجمال وشدة القبح، لتكون نهاية سبيلها في آخر المطاف هو المرار الشديد الذي لا يحتمل.
وأخيراً فبالرغم من كل ما يحيط بالمجتمع من أمراض اجتماعية خطيرة ومقلقة ومتفشية، فالأمل كبير والرجاء عميق، بألا تكون كل تلك المخاوف حقيقة مؤلمة، وطويلة الأمد والبقاء ضمن النفوس، وأن تكون العودة إلى النمط الماضي من الحياة أملاً ضرورياً وعلاجاً شافياً لأولي الألباب.
د. بشار عيسى