العدد: 9282
31-1-2019
في بداية هذا العام الدراسي دخلت طفلتي التي لم تتجاوز ربيعها العاشر إلى المنزل وصوت بكائها يملأ الآفاق، رمقتني بعيون يغشاها دمعٌ مزاجه الألم والحسرة وبادرتني بشفاهٍ ترتجف على وقع صوتها المتهدّج: أمي لماذا لا أحظى أنا كبقية رفاقي في الصف بحصص دروسٍ خصوصية؟! أنا الوحيدة بينهم التي ليس لديها (أستاذ خصوصي) يتابع دراستها ويساعدها، هرعت إليها ماسحةً ينبوع العبرات على خديها: ومن قال أنك الوحيدة التي تقوم بواجبها الدراسي دون الاستعانة بالمدرس الخصوصي، صدقيني أغلب زملائك في الصف لا يتلقون حصص تعليم خصوصية، اهدئي بنيتي، فالموضوع لا يحتاج كل هذا البكاء من عينيك الجميلتين! توقفت فجأة عن النحيب وكأنها صُدمت بحديثي الذي لم تعهد فيه كذباً من قبل، واستجمعت قواها واضعةً يديها على خصرها وواجهتني مفاتشةً: اليوم سألت المعلمة من منا لا يتلقى دروساً خصوصية، لم يرفع أحد في الصف يده إلا أنا، جميع الطلاب ذهلوا وبعضهم شهق من هول ما رأى، الجميع في الصف ينظرون إليَ بعيون الشفقة حتى المعلمة نفسها، إلى متى سأبقى محرجةً أمامهم، هل نحن فقراء إلى هذا الحد؟! بعد هذه المرافعة الموثقة بالشواهد والقرائن تذكرت المثل القائل (قاضي الغرام شنق حالو) وأحسست بالتلعثم يجتاح حنجرتي قبل لساني، أنا الآن مضطرة لتبادل الأدوار أضحت هي القاضي وأنا محامي الدفاع عن نفسه، سألتها: ألست من أفضل المتفوقين في المدرسة؟ أومأت برأسها دون أن تلتفت إلي، إذاً يتوجب عليك أن تكوني فخورة بتفوقك الذي تتميزين به عن أقرانك لأنه حصيلة اعتمادك على نفسك دون الحاجة إلى مساعدة الغير، تأكدي أن زملاءك هم من يتوجب الشفقة عليهم لا أنت.
بعد أخذٍ ورد نجحت في إقناعها رغم شعوري بأن القاضي الصغير أصدر حكمه وفقاً للقانون لا وفق قناعته، هذا المشهد سافر بذاكرتي إلى مدرستي الإبتدائية عندما أخذت شريكتي في المقعد بيدي إلى ركن الباحة وتلفتت يمنة ويسرى لتطمئن أن أحداً لا يسمعنا وبعد أن أخذت مني أغلظ الأيمان وأكبر المواثيق باحت لي بسرها الدفين الذي لم تعد تطيق له كتماناً: أبي قام منذ شهر باعتماد مدرّسة خصوصية تعينني في دروسي، هذا السر إن أنت بحتِ به فهو الفراق بيننا، يومها ذهلت وشهقت من هول ما سمعت وأحسست بالشفقة تجاه صديقتي لما أصابها من بلاء، لم أبح بهذا السر حتى لأفراد عائلتي لكنني اليوم مضطرة للبوح به وهي ستسامحني حتماً.
قبل يومين دخلت طفلتي المنزل مهللة تحمل في يدها امتياز التفوق، حضنتني بعيونها قبل يديها قائلة: أمي أنا جِداً فخورة بتفوقي واعتمادي على نفسي، أحسست أنا أيضاً بالفخر لكنني أعلم أنه فخر مؤقت إن صمد هذا العام فلن يصمد الذي يليه وسيتحول منزلي كمنازل الجميع مزاراً يؤمه أساتذة التعليم والتسميع لإعانة أطفالي على هضم منهاجٍ إذا تناوله الخوارزمي وسيبويه سيصابان بالكتام، فيما مضى قيل فساد المجتمع واليوم نقول مجتمع الفساد.
أن يلتهم الفساد حليب أطفالنا فلنا في الخبز والشاي عوض.. أن يلتهم الفساد دفء أطفالنا فلنا في حرّ الصيف عوض.. لكن أن يلتهم الفساد تعليم أطفالنا ومستقبلهم فمنه وعليه العوض.
شروق ديب ضاهر