“النداء الخفي”

الوحدة 30-3-2024

نداءٌ خفيٌّ ينادي شمس عمري، منذراً أنّ الأفول قد دنا، أطلُّ على موتي مطرّزاً برائحةٍ لا تشبه إلا رائحةَ الله، أحاول أن أستحضر عمري الهارب،ذكرياتي، أشخاصاً أحببتهم، أماكنَ أخذتْ شيئاً من روحي. و قبلَ أنْ يصفِّر عدادُ العمر معلناً أن كل شيء قد انتهى.

أحاول في ما تبقّى من وقت أن أوجّه رسائلَ بكل اتجاه.

شكراً لكل من وضع على شرفة الروح ابتسامة و مضى، شكراً لكل من يمرّ على قبري و يبتسم لي، يضعُ وردةً و يمضي.

اقول لأصدقائي: يميناً لا أزالُ أحتفظُ بأصواتكم في خزانة صدري، وما إن تهبَّ رياح الذكرى حتى تنطلق نايات روحي بألف لحن و صدى، وتعتريني رغبة في البكاء، لكن على ماذا؟؟ لست أدري، كأنّها الأشياء تهرب و تفرّ مني بعيداً دون إرادتها، أو إرادتي، ثم أعود و أمنّي النفس بالأمل و أقول: (كلُّ شيءٍ قد يبدأ من جديد) و أسأل نفسي: من ابتدع أسطورة الفينيق الذي يعود من رماده من جديد؟؟ نعم أنا الفينيق الذي فقد أسطورته و استيقظ على جسد متهالك بعد أن فقدتُ الحلم المحلّق فغدوتُ غريباً عن أسطورتي و حلمي، وانتهيتُ إلى كيس من جلد و عظم. ثمة فراشات تحلق في الضوء البعيد بينما العتمة تحيط بي من كل جانب، أنادي.. لا أحدٌ يمدُّ يده، أو يعطي كفه لينشلني من فراغ لا قاع له، بينما أتهاوى كنيزك فقد صلاحيته.

– ماذا يقول لي النهار؟

– لا شيء.. لا شيء، الليل فقط يقطب حاجبيه، حتى السماء بخلت بضحكتها فاختفت النجوم دفعة واحدة. أضحك من هشاشتي، وأحاول أن أقنع نفسي أن خلوة لا غير و أن ما أراه حلم فحسب أقول :هو وقتٌ قصيرٌ و يدقُّ جرس الحياة من جديد، و يعود الناس من مشاغلهم، نعم هي خلوة لا غير و أحاول أن أصدق أحلامي و أكذّب ما أراه.

ألمُّ أدوات قلبي.. أسمع صفير القطار مسرعاً، أنتظره، أسابقه من محطّة إلى محطّة يقف القطار… أحاول الصعود و لا أستطيع، خدرٌ يصيب قدميّ، يتابع القطار سيره غير آبه بي، فأنطوي على نفسي تاركاً عشب الخرافة ينبت في رأسي، أمسك إبرة المستحيل و أخيط الحلم من جديد…، ألوّحُ بيديَّ للناس:(أن تعالوا)، لا أحد يلتفت. فأحمل عبء قلبي وحيداً و أستعيد ذاكرةً لها عمرُ طفولة بعيدة. تمشي السماء على بركة الماء و تتمايل النجوم متلالئة على سطحها الراقص كأن لا حياة و لا موت.

أفتح حقيبة قلبي على شرفة ذكريات تمتد على مساحة ستين عاماً و كأنها حلم أراه و أتهجاه مشهداً مشهداً واضعاً يدي على قلبي، كأنني لا أريد لهذه القراءة أن تنتهي.

ها أنا على مسرح الحياة طفل يلهو، يلعب، يتعلم، يبدع في اقتناص الفرص، و يصنع من أشباه الفرص حدثاً طفولياً يثير إعجاب الجميع صغاراً و كباراً يثير حماسة رفاق الطفولة، ويدهش أساتذته يكبر الطفل و يغدو شاباً يشتعل حماساً واندفاعاً إلى البعيد البعيد من الأماني. فتصدمه الحياة و يشده الواقع إلى الوراء يتوازن يتمسك بالأمل و يمسك بزمام الأشياء من جديد يستميت لتحقيق أهداف آمن بها و عمل ما بوسعه كي يكون للإنسان الحقيقي مساحة أكبر في هذه الحياة.

لم يستسلم يوماً لكن الزمن و أشياء أخرى قلمت أظافره لكن دون أن تكسر روحه أبداً. أسأل نفسي في هذه الخلوة و السكون الرهيبين :(عن وعلى ماذا كنت تبحث يا رجل؟) و هل جنيت إلا السراب؟

-ربما كنتُ أبحثُ عن صديقي الإنسان، و أسأل نفسي هل التقيته يا ترى؟ -و هل كانت رحلتك التي شارفت على الإنتهاء إلا سراباً؟

-إذن يالحماقتي… يالخسارتي في عمر مهدور، و أستدرك أبداً لم أخسر إلا خوفي، هل إنني جاهزٌ للقاء الموت لأنني وجدت و اكتشفت الإنسان و الله يملآن قلبي، فهما معي حيث اتجهت. وقف قطار الحياة وعربد صفير قطارها و كأنه يدعوني إلى الصعود. حرّكت قدميّ، جسدي، ذراعي

-كان الخدر قد زال و لا وجود لأي تعب أو تراخٍ في أطرافي، إنني جاهز تماماً. لكن ربما لا أريد الصعود، إنها الخلوة التي عرفتني جيداً إلى ذاتي والإنسان والله، ألّح القطار في صفيره كأنه يعطيني فرصة جديدة للصعود، أشرت بيدي ملوحاً: رافقتك السلامة أيها القطار فأنا في خلوةٍ لم تنتهِ بعد.

محمودعزيز إسماعيل

تصفح المزيد..
آخر الأخبار