الوحدة 27-12-2023
أطفأ بابا نويل نار موقد التدفئة في منزله القابع على أطراف القطب الثلجي البارد ونظر من خلال النافذة إلى الإسطبل الخشبي ليطمئن إلى أن غزلانه المتعبة قد خلدت إلى نومها السنوي بعد الرحلة المكوكية المضنية بينما بدأ الثلج يغطي عربته المتكئة إلى جدار الإسطبل. أدار بيده الخشنة مسنن الفانوس النحاسي العتيق المعلق على الجدار فازدادت شعلته اتقاداً، تكلم إلى نفسه: تشبهني أيها الفانوس القديم في داخلك نور يضيء الدنيا وهيكلك تتآكله السنون أنا وأنت بانتظار يومٍ تنطفئ فيه شعلتنا إلى غير رجعة لكنني أعتز بصداقتك ورفقتك، قهقه بابا نويل ضاحكاً وتهالك على مقعده الخشبي: السكنى في هذا القطب الموحش تجعلني أتكلم إلى الفانوس، رفع إبريق النبيذ الساخن وصبَّ كأساً أخذ يرتشفه بسرعة: هذا هو الكأس الرابع لكن لابأس يحق لي الآن أن أحتفل مع نفسي ومع الفانوس فعيد الميلاد انتهى منذ يومين والعام الجديد على الباب، وأنا عائدٌ من رحلة اسطورية طويلة استمرت شهراً جُلت فيها أصقاع الأرض من قطبها إلى قطبها، قطعت البحار والفيافي والسهول والجبال في كل قارات هذا العالم و وزعت جبالاً من الهدايا على أطفال الأرض أبيضهم وأسمرهم، صحيحهم وسقيمهم، غنيهم وفقيرهم، سعيدهم وبائسهم، نشرت الفرح في هذا العالم وأضفيت السعادة على قلوب الأطفال جميعاً، لا بد أن البشرية كلها ممتنة لعملي الجليل هذا، حرك كتفيه وهز شاربيه ولحيته البيضاء الكثة: طبعاً أنا أفعل ذلك دون تفضل أو منَّة…إحم..لكنه عملٌ عظيم وأنا فخور به، كان يقرّب الكأس إلى فمه المغطى بالشعر الأبيض كمدخل مغارةٍ غطاه الثلج، وفجأة صدر عن موقد التدفئة صوت ارتطامٍ عظيم وامتلأ المكان حول الموقد دخاناً وغباراً، ارتجفت يده من الخوف وانسكب النبيذ على لحيته وسترته الحمراء وتسمر في جلسته مذهولاً يراقب انجلاء الدخان عن طفلٍ صغير هبط من مدخنة الموقد تماماً كما كان هو يفعل مع الأطفال الذين يهديهم الهدايا. طفلٌ صغير رث الملابس يحمل كيساً على كتفه شعره مغبر ملتف كخواتمَ تكلل وجهاً غطاه سواد الغبار تحدّث بلثغة الأطفال: مساء الخير حبيبي بابا نويل، انتفض بابا نويل من جلسته صارخاً: من أنت أيها الصغير من أين أتيت؟ كيف أتيت؟ أخذ يتلمس كتفي الطفل: حقيقة..حقيقة أنا لا أهلوس..أنا لست ثملاً، اجلس يابني اجلس وأخبرني من أنت؟ أجابه الصغير: أنا طفلٌ قد أكون من اليمن التعيس أو من سورية الجريحة أو من غزة الذبيحة لايهم ما أعرفه هو أن شهادة ميلادي مذيلة بتوقيع الكارثة، وأعلم أن التعاسة والضياع ستكتبان سماتٍ مميزة في هوية مستقبلي، حلمت كثيراً بأنك ستأتي لزيارتي ولم تفعل يا بابا نويل، حكَّ بابا نويل لحيته مجيباً بلهجةٍ لاينقصها التلعثم: نعم..في الحقيقة..بصراحة كنت أنوي زيارتك ورفاقك قاطعه الطفل: كنت تنوي لكن الحرب منعتك من المجيء يعني تطير بغزلانك في الفضاء وتقطع المسافات الشاسعة بلمحة عين وعندما يصبح الأمر متعلقاً بزيارتي يصبح احترام الحدود والمعابر والخنادق واجباً عليك لا أفهم ليس الجبن ما يمنعك لأنك تتمتع بقدرات خارقة لا يحلم بها بشري، بكل الأحوال لم تأتِ لزيارتي فقررت أنا أن أزورك وأن أحمل إليك ماتيسر من الهدايا في كيسي الممزق هذا، لكَ أن تهديها إلى أقراني الأطفال حول العالم حيث لا حدود ولا معابر تمنعك عن زيارتهم. لم ينبس بابا نويل ببنت شفة وظلً محدقاً إلى الطفل الذي بدأ يخرج هداياه من الكيس: هذا دفتر مدرستي لم تعد لي به حاجة بعد اليوم، متسخ قليلاً لكنه يصلح لكتابة وظائف الأطفال وأنا ما عدت طفلاً فسنون الحرب والحصار جعلت في داخلي شيخاً لحيته أطول من لحيتك، وهذه دمية أختي التي قضت بقذيفة غادرة صنعتها لها أمي من بقايا القماش وخيوط الصوف انظر كم هي جميلة تشبه أختي التي ماتت ولم تزرها يوماً يا بابا نويل، مسح بابا نويل على وجه الطفل بيده: يابني أنت تتكلم كالشيوخ لذلك سأخبرك مالا أخبر به أحداً، زيارتي لبلادكم ممنوعة لأنني سفير الفرح، والفرح ممنوع أن يدخل بلادكم، أصغِ إليَّ يا صغيري وافهم جيداً ما سأقول، أنتم في بلادكم يتوجب عليكم أن تصنعوا الفرح بأيديكم لاتنتظروا أن يهبط الفرح إليكم من المداخن. تبسم الصغير فاتحاً عينيه الكبيرتين: أضحكتني أيها الشيخ نحن ما انتظرنا يوماً أن يهبط الفرح إلينا من المداخن نحن ننتظر أن تتنفس مداخننا الدفء في هذا القرّ الشديد، تابع إخراج أشيائه من الكيس: هذا الشال خاطته جدتي لأبي هو الآن يلتحف التراب خذه علّك تهديه من يحتاجه في برد الشتاء، وهذا ظرف فارغة رصاص ستفرح به صبية تضعه تذكاراً في عقدٍ على جيدها هم يُسعَدون بهذه الأشياء التي يعتبرونها نادرةً عندهم بينما نتعثر نحن فيها أثناء مشينا على الطرقات. جمع بابا نويل أشياء الطفل بعصبية ظاهرة وأعادها إلى الكيس وبادر الطفل بحديث حاول فيه أن يتظاهر بالتماسك: لابد أنك جائع يابني سأحضر لك شيئاً من حساء البصل والنقانق هي عشر دقائق ونتناول الطعام معاً، نهض الطفل قائلاً: أشكر لك كرمك بابا نويل لكن يتوجب علي الذهاب. تركه ومضى إلى الموقد واختفى داخل المدخنة، صرخ بابا نويل: أين تذهب لم تخبرني حتى ما اسمك، تناهى إلى سمع بابا نويل صوت الطفل قادماً من المدخنة: وداعاً بابا نويل..أنا اسمي ابن الويل.
عامٌ سعيد نتمناه لكل أبنائنا إن كان خالياً من بابا نويل فعلى الأقل نتمناه خالياً من الويل.
شروق ديب ضاهر