مبادرات مجتمعية ودورٌ مميـّز في صــــداقة البيـــــئة

العدد: 9361

الأحد-9-6-2019

 

 

 

شبح التلوث يخيم على مدينة اللاذقية ويغزو مفاصلها ويتغلغل في أوصالها، وينتشر انتشار النار في الهشيم، شبحٌ لم يعد مقتصراً على التلوث البيئي الذي تسبّبه الغازات السامة وانبعاثات الدّخان النّاتج عن عوادم السيارات والحافلات وسواهما، بل تعدّاه إلى التلوث البصريّ والسمعيّ الهائلين اللذين بدأا يستشريان كالوباء دون رادع أو كابح لجماحهما، ولا شك عانى القطاع البيئي كما غيره من تبعات الحرب الجائرة ومخلفاتها وآثارها التي طالت كل شيء، ولم تكن البيئة بمنأى عنها، فهي البوتقة التي تتجمع فيها مفردات الحياة كافة، والحاضن للعمليات الإنسانية الإنتاجية والصناعية والترفيهية ..إلخ.
وخلال جولة قصيرة في شوارع وبين أحياء اللاذقية تلفت انتباهك حالات متناقضة، أحياء ومبانٍ ومنشآت بهندسة معمارية ملفتة، وحدائق غنّاء مرصّعة بأنواع الزهور والورود، ساحات واسعة وشوارع عريضة تضفي عليها رونقاً جمالياً وحضارياً رائعاً، يعكر صفوه ويسيء إليه ما يقابله على الطرف الآخر من الحقيقة التي لا يمكننا التعامي عنها، أحياء عشوائية بأبنية فوضوية غير منظّمة، أزقتها ضيقة، الأخضر فيها شبه معدوم، تلوث بصري يشوّه وجه مدينتنا التاريخية، عدا عن كونها مناقضة للشروط الصحية والإنشائية، تعاني إهمالاً خدمياً كبيراً على مختلف الصعد، من صرف صحيّ إلى أكوام النفايات التي لا تُرحّل إلى الطرق غير المعبّدة وإن عبرت فتحت فاهها مع أول قطرة غيث.
التناقض العمراني وجه من أشكال التلوث البصري، يرافقه ما يزيّن شوارعنا وأحياءنا من ملصقات عشوائية، إعلانية وغير إعلانية، نعيات وفاة، إعلان مسابقات، افتتاح جديد…
تطالعك في كل مكان ومن حيث لا تدري، على الجدران والأشجار وأطراف الطرقات وواجهات الأبنية ومداخلها، بلا رقيب ولا حسيب، بعضها صامد منذ سنين، لم تنل منه عوامل المناخ ولا أيدي العابثين، فماذا لو جمعناها كلها في لوحات مخصصة لهذه الغاية، مع تحديد مدة زمانية معينة تزاح بعدها؟ ألن تكون إحدى علميات التجميل الناجحة جداً لوجه اللاذقية الأجمل؟
وإذا ما تابعنا جولتنا تستوقفك أزمات السير الخانقة التي لا تزال موجودة على الرغم من الحلول الكثيرة التي قدمت لها، كالأنفاق والجسور، لكن مناطق عدة تشهد اختناقاً مرورياً وبشرياً هائلاً، خاصة في ساعات الذروة عند الظهيرة، ومحاولة البعض تحويلها إلى مضامير سباق أو حلبات مصارعة، فالتوقف العشوائي مباح ولو حتى منتصف الطريق وإيقاف حركة السير العامة من البديهيات، دون مبالاة أو اكتراث بالآخرين، يزيدها سوءاً التلوث السمعي الناجم عن ضجيج أبواق السيارات مع أصوات الباعة الجوالين، ما يصمّ أذنيك عن سماع أيّ صوت آخر حتى صوت عقلك، ويستحيل معها فصل ما تسمعه من أصوات فكلٌّ يغنّي على ليلاه، حتى مطربي هذه الأيام تطاردك أصواتهم وآخر إصداراتهم في كل مكان، ولا يقف المشهد عند هذا الحدّ، إذ ثمة مظاهر أخرى للتلوث أشدّ إيلاماً، فالكثيرون تسوّل لهم أنفسهم إلقاء بقايا أو مخلفات أطعمتهم وقمامتهم على جانبي الطريق وكأن أحداً لا يراهم، ما يحول بعض الزوايا في أحيائنا إلى ما يشبه مكبّ النفايات، ناهيك عن الروائح الكريهة الخانقة، والمضافات التي تفتحها القطط والولائم التي تقيمها على شرف بعضها وتدعو إليها قطط وحشرات وجرذان الأحياء المجاورة، ما يجعلها بؤرة مرضية مرعبة، ولعل إشغالات الأرصفة بكل شيء عدا المارة أحد الملوثات البصرية كثيرة الانتشار، ولأن الغيارى على جمال اللاذقية كثيرون، كان لابدّ من مبادرات بيئية، تصدّى أصحابها لكل ما يشوه عين الرائي وبدؤوا عمليات التجميل، وإصلاح ما خرّبه الزمن وأهله، وبدأنا بسماع عناوين كثيرة لأسماء جديدة من الشباب الواعي الحريص كل الحرص على نظافة وجمال وروعة مدينته، ومن هنا كانت أولى أحجار الأساس في إعادة الإعمار البيئي إن صحّ التعبير، لاسيما مع بداية موسم السياحة والاصطياف الذي طرق الأبواب، ويحمل في جعبته زواراً وضيوفاً أكارم ستلتقط عدسات كاميراتهم معالم مدينتنا، فلكم أن تتخيلوا أحد المشاهد الآنفة الذكر وقد التقطته إحدى العدسات وما سيشوه به معالم مدينة عانقت أحرفها أول أبجدية في التاريخ وفاح شذى سمعتها العطرة أرجاء العالم أجمع، ومن هذه المبادرات التي تحمل في أغلبها طابع التطوعية، مبادرة الجدارية، التي حدثنا عنها المهندس يحيى غريب قائلاً: عندما كنت في دورة تدريب المتطوعين ( كوني متطوعاً جديداً) أخبرنا المدربون أثناء الدورة بالمبادرات التي تشرف عليها الأمانة السورية للتنمية، ومنها مبادرة جدارية اللاذقية وقررت المشاركة فيها، وكان هناك تقسيم للأدوار، حيث يوجد مشرفون، ومتطوعون يعملون ضمن فئات، كل منهم مسؤول عن مهمة ما، إذ قمت آنذاك بجمع قطع السيراميك والمساهمة في لصق بعضها في الأجزاء غير المنتهية من الجدارية، إضافة إلى تنظيف وغسل بعض أجزائها وتلييس أجزاء أخرى، وأكد م. غريب مشاركته في مبادرات عدة، هدفها زيادة الوعي البيئي وتحسين مظهر المدينة وجعلها أكثر جمالاً وروعة، وكانت الجدارية من روح البحر وسفنه وأهله، وتحولت إلى مقصد يؤمّه أبناء اللاذقية وزوارها.
ومن المبادرات البيئية الهامة أيضاً مبادرة (لتس بايك) دعنا نقود الدراجة، حدثتنا عنها السيدة ريم حرفوش قائلة: أطلقت مبادرة (لتس بايك) في آب 2017 لتشجيع قيادة الشابات والشبان للدراجات الهوائية واستخدامها كوسيلة تنقل صديقة للبيئة وسريعة وسياحية ورشيقة ضمن المدينة وخاصة للصبايا.
وعن الأثر البيئي لقيادة الدراجات الهوائية أضافت: إنه تخفيف التلوث السمعي وتلوث الهواء من خلال تخفيف انبعاث عوادم السيارات ولكن يتطلب الأمر انتشارها على نطاق واسع وانخراط مختلف الشرائح من موظفين وطلاب جامعات وأصحاب مهن حرة.
أمّا المشاركون في المسير عادةً هم من الفئة العمرية من 15 إلى 55 سنة، وقد فاجأني انضمام سيدات من 45 إلى 55 سنة، وهن بكامل الحماس واللياقة والقدرة على التوازن والتحمل لمسافات طويلة، ولكن الأكثر مشاركة هم طلاب الجامعات، ويمكننا القول: إن المبادرة حققت أهدافها من كسر حاجز الخوف، وحاجز الخجل عند الصبايا لقيادة الدراجة الهوائية وأصبح منظر الفتيات اللواتي يستخدمنها مألوفاً نوعاً ما، ولاحظت أنّ بعض الطلاب تشجعوا على شرائها لاستخدامها في تنقلاتهم من وإلى الجامعة، ولكن لا يزال هذا العدد محدوداً وكثير من النساء لا يتجرأن على استخدامها إلا ضمن مجموعة وخلال المسير. وعن استمرارية المبادرة أجابت: نعم المبادرة مستمرة على نفس الوتيرة ونحو مناطق جديدة في المحافظة لتحقيق غاية إضافية هي تعريف المشاركين ببعض المواقع السياحية الجميلة في اللاذقية.
ومن المبادرات المميزة أيضاً، مبادرات جمعية (أرسم حلمي) التي رسمت ولونت عدداً من الأدراج والجدران في مدينة اللاذقية وأضفت حيوية ورونقاً وحياة لها.
ونحن اليوم بانتظار مزيد من هكذا مبادرات فاعلة وفعالة، تترك أثراً بيئياً إيجابياً ويحول مسارات الطاقة السلبية البصرية إلى طاقة إيجابية، تبعث الروح والحياة في شرايين وأوردة المدينة، ابنة البحر، اللاذقية التي لو نطقت لسمع العالم أجمع استغاثاتها وهي تصرخ: ارحموني… أنقذوني من براثن تلوث يقطّع أوصالي ويخنق أنفاسي…

ريم جبيلي

تصفح المزيد..
آخر الأخبار