الوحدة 27-4-2023
“المنقلة” لعبة لوحية قديمة ومعروفة في أماكن متعددة حول العالم .. عرفت منذ عدة قرون في الساحل السوري والمنطقة المتوسطة، حيث تعتبر من الألعاب التراثية الشعبية التي ما تزال تلعب كل يوم في المنزل وفي المقهى وفي الطبيعة، وتقام فيها مباريات ودية بين طرفين يتجنب كل طرف فيها الخسارة ليبقى محافظاً على ماء وجهه كلاعب ممارس لهذه اللعبة.
– تاريخ لعبة المنقلة
يرجع تاريخ لعبة المنقلة إلى 1400 سنة قبل الميلاد، حيث تم العثور على لوح حجري على أحد الأسطح في معابد مدينة منفيس بولاية طيبة والأقصر والتي تبدو أنها تطورت في مصر من لوحات العد والحاسبات التي كانت تستخدم للجرد، بالإضافة إلى أدلة أكثر قدماً في بلاد سومر، حيث كانت كما الحال في مصر القديمة. وفي عهد التوسع الاستعماري، انتشرت اللعبة، فلم تعد مقتصرة على إفريقيا والشرق الأوسط، بل انتشرت ليتم العثور عليها في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي وعلى الساحل الشرقي في أمريكا الجنوبية بعد هجرة العبيد، كما وجدت بعض النسخ المعدلة عنها في الهند و سيريلانكا وإندونيسيا وماليزيا والفيليبين.
عالمياً، يمكن تقسيم طرق اللعب بهذه اللعبة إلى ثلاث طرق هي: ذات الدورة الواحدة – متعددة الدورات – متعددة الدورات الهندية.. و في جزر الهند الغربية، تأخذ اللعبة مدلولاً دينياً، حيث كانت تلعب في مجالس العزاء اعتقاداَ بأن روح الميت بحاجة للتسلية قبل دفن جسده، إلا أن هذه المعتقدات تم نسيانها أو عفى عليها الزمن. والجدير بالذكر بأن اللعبة ذات اسم عربي، وهو يطلق على جميع الألعاب من هذه الفئة في اللغة العربية، لتكون بذلك اللعبة الأقدم في العالم والتي تحمل اسماً عربياً.
تنتشر هذه اللعبة في العديد من المناطق السورية، وخاصة في المناطق الساحلية، والمتوسطة .. وهي لعبة قديمة، أغلب ممارسيها من كبار السن .. وتعتمد اللعبة على مواد أولية متوفرة كالحصاة ولوح الخشب. تتم اللعبة على لوح خشبي له 14 حفرة … لكل لاعب سبع حفر ..ويتم توزيع 49 حصية “بحصة” لكل لاعب.. في كل حفرة 7 بحصات.. يفوز اللاعب الذي يربح عدداً أكبراً من الحصى..
يعتمد بعض اللاعبين على الغش في هذه اللعبة بإحضار حصى إضافية واستخدامها عند الحاجة .. ولكن هذه الحيلة غير مجدية أبداً مع اللاعبين المحترفين .. فبعض المحترفين يستطيعون حساب ومعرفة عدد الحصى في كل حفرة بعد أكثر من خمس دورات من اللعب المتواصل ..
تطورت صناعة أدوات لعبة المنقلة مع الزمن وخاصة الحفر في اللوح الخشبي، الذي أصبح يتطلب حالياً دقة في قياسات الحفر، والتركيز على جعل هذه الحفر ملساء حتى يسهل جمع الحصاة منها أو وضعها فيها.
يتحدث العم “أبو محمد” المقيم في ريف محافظة اللاذقية عن مدى تعلقه بهذه اللعبة فيقول: في أوقات الفراغ الطويلة التي تملأ حياة كل رجل يتقاعد من عمله الوظيفي يجب عليه إما العمل (إن توافر) أو التركيز على التسلية الذهنية، وهذا هو حال لعبة “المنقلة”.. اللعبة التراثية التي لم تتوقف أبداً منذ عُرفت وانتشرت في سورية بشكل عام وخاصة في الساحل، ويكمل حديثه: أنا شخصياً أجد فيها متعة لأنها تساعدني على النشاط الذهني فهي تحتاج لحسابات رياضية صعبة وتركيز عالي المستوى .. نجلس ساعات طويلة في مباريات ودية مع الأصدقاء، وقد نذهب من منطقة إلى أخرى لنتنافس مع شخص قد سمعنا عن إتقانه واحترافيته لهذه اللعبة.
في حين يؤكد “سليمان علي” المتواجد في ذات المنطقة أنه و بعد الانتهاء من عمله اليومي يتوجه بشكل روتيني إلى أصدقائه ممن اعتادوا على لعب “المنقلة” : ألعب هذه اللعبة منذ حوالي عشرين عاماً، فهي ملجأي من كلام الناس والحديث عنهم أو رفقة السوء بعد هذا العمر والاحترام الذي حصلت عليه بين أبناء القرية، وأعتقد أن من يلعب لعبة “المنقلة” هو إنسان ملتزم جداً ويحترم ذاته، والدليل على هذا أني لا أذكر يوماً رأيت فيه رجلاً غير صالح يلعب بها، حتى على مستوى العجائز الذين يلعبون بها حتى الآن.
يتابع: “لعبة “المنقلة” لعبة التحدي والفضول في المتابعة، فلا يمكن لخاسر أن يسكت عن خسارته وينسحب، وإنما يتابع اللعبة مهما طالت حتى يحقق التعادل، وأذكر أن بعض المعمرين ممن أعرفهم كانوا يبقون حبيسي منازلهم مكتئبين ليوم كامل عند خسارتهم، فقد كانوا مواظبين على لعبها لساعات طويلة بعد الانتهاء من أعمالهم الحقلية. ورغم ما أفرزه العصر الإلكتروني من وسائل جديدة للتسلية والترفيه والتواصل، ورغم الحرب الشرسة والعنيفة التي تعيشها البلاد، تبقى لعبة المنقلة بطقوسها الشعبية حاضرة ومستمرة.
أفرورا عيسى