الوحدة: 4- 4- 2023
عن التسامح يدور بيني وبين الأصحاب حديث لا ينتهي .. تمر أيام وشهور وتدور بنا دوامات التجربة وتجذبنا رمال الغضب المتحركة إلى الأسفل عندما ننجرح فنعود للحديث عن التسامح، أذكر تلك اللحظة الرائعة حين سامحت من جرحني وزج بي إلى هوة من المرارة والغضب والأسئلة، شعرت بجسدي خفيفاً كأنني على وشك الطيران، وبروحي ترقص على أوتار عود هي فقط من تسمعه، وقلبي يتسع كأنه قادر على احتضان الكون كله.
وأذكر نظرة صديقتي المندهشة حين أخبرتها أنني قد وصلت إلى مرفأ السماح، قالت: لو ذقت ما ذقته من مرارة الغدر، ما سامحت ولم السماح! أجبت: أنا لم أسامح من أجل شخص، ولكن من أجل خاطري أنا، لقد سامحت من جرحني، لأنني أدركت في لحظة كاشفة أن استبقاء الغضب والمرارة لا يجرح أحداً سواي، وأنني بحاجة إلى تنظيف قلبي من نفايات الغضب التي غيرت من لونه وأثقلته…
لكن قبل أن أستكمل الحديث عن أصعب المشاعر التي لابد أن نكابد من أجل الوصول إليها، لابد أن أوضح أن التسامح مع من أذاقونا المرارة والأنين لا يعني أن نستمر على علاقاتنا بهم، إنه شيء يقترب من الاستحالة أن نسامح من لايزالون يمارسون علينا أياً من أشكال القهر، أنا أتحدث تحديداً عن تلك اللحظة التي ننفيهم من حياتنا، ونبقى وحدنا في غرف مغلقة مع حزننا والغضب، ينطبق هذا الحديث على الحالات القصوى للجرح والألم.
لكن هناك مستويات عدة للخطأ، وبالتالي للألم الناتج عنه كأن، يخطئ في حقنا أشخاص من دون قصد ونتيجة ضعف ما فيهم، وفي هذه الحالات لدينا خيارات منها مثلاً أن نحاول تبصيرهم بما هم فيه من حال يؤدي إلى جرح القريبين منهم، وأن نساعدهم على التغلب على هذا الضعف، أو ربما ندرب نحن أنفسنا على احتمال الجروح القادمة منهم لأن لدينا من المحبة واتساع الأفق ما يؤهلنا لقبول ضعف البشر، وتحديداً هؤلاء الذين لا يعالجون أنفسهم بأنفسهم.
وكثيراً ما أتذكر حكمة قديمة (إن وددت رؤية الشجعان، ابحث عن من يمارسون التسامح، وإن رغبت رؤية الأبطال فتش عن هؤلاء الذين يمنحون الحب في مقابل الكراهية)، هنا تتلخص درجات القوة، فالتسامح شجاعة، لكن البطولة وهي أعلى درجات الشجاعة تكمن في منح المحبة على رغم تلقي صفعات الخطأ أو الكراهية.
لكن هل بإمكاننا الحديث عن التسامح مع الآخر من دون أن نتناول صعوبة غفران أخطائنا نحن ؟! يبدو لي أحياناً من تأمل تجاربي وتجارب الآخرين أن هناك إحساساً بالذنب، يقيناً داخلنا وأحياناً منذ الصغر، ربما مازلنا هؤلاء الأطفال الذين يبغون رضا آبائنا وأمهاتنا، مازلنا نتذكر أخطاءنا القديمة وغضب أمنا أو أبينا، مازلنا نبغي رضا الآخر وننسى في حمى تلك المعاناة ماذا نريد لأنفسنا.
يأتي كل خطأ جديد لينكأ الجرح القديم ويضيف إلى قائمتنا السرية السوداء نتذكر أخطاءنا ونشعر بالخجل والذنب، ونجلد أنفسنا، لكنني أعتقد أن جلد الذات مضيعة للوقت وللطاقة. من الأولى بنا أن نوجه هذه الطاقة إلى محاولة الفهم العميق لأنفسنا ولمناطق الضعف فينا وإلا سنكرر الأخطاء نفسها، لأننا لا نزال نفس الأشخاص بنفس نقاط الضعف ونفس الجهل بالذات…
فلنجرب طريق التسامح مع أنفسنا ومع الآخر، فعلى رغم وعورة الطريق إلا إنه سيصل بنا حتماً إلى منطقة خضراء مزهرة نشعر فيها بأجسادنا خفيفة بعد تحررها من وطأة الغضب وبأرواحنا وقد عادت طفلة لاتزال تملك القدرة على المحبة.
لمي معروف