الحكيم العارف..  الشاعر الفارسي نظامي الكنجوي

 الوحدة :9-3-2023

ربما لا تحملُ الأجيالُ العربيةُ الحاليَّة الكثير من المعرفةِ بالشاعر الفارسي العملاقِ نظامي الكنجوي، لكن اهتمام إيران بمفكريها و شعرائها المبدعين فتح الأبواب للغُرف المغلقة في ذاكرة الشعوب العربية للتركيز على حياة نجمٍ شاعريٍّ سطعَ في سماء الأدب الفارسي، وما قدَّمه من نصوص شعرية وقصصية خلابة مغلَّفةٍ بالفلسفة النفّاذة إلى القلوب والعقول على ذات المستوى.

يلقبه محمد العوفي بالحكيم الكامل، و يصفه دولتشاه بالحكيم العارف، نظامي الكنجوي شاعر من رجال القرن السادس الهجري, و هو ( جمال الدين أبو محمد الياس بن يوسف بن زكي بن المؤيد).

ولد نظامي الكنجوي في مدينة (كنجه) و أمضى حياته كلها في هذه المدينة، فلم يغادرها إلا لسفرة قصيرة، وتوفي و دفن فيها.

ويقال: إن نظامي عني منذ شبابه بتحصيل العلوم، و دراسة الأدب، فتعلم الطب و الحكمة والتاريخ، إلى جانب تبحره في علوم الشعر و الفصاحة و البلاغة، و كل ما يفيد الإنسان في عالم الشعر.

نهل كنجوي من بحار معظم العلوم، مما ساهم في صقل شخصيته، حتى عرف عنه أنه أثَّر بالكثيرين و لكنه لم يكن في حياته مقلداً لأحد.

كان نظامي فريداً في حياته كما كان فريداً في الشعر ورجلاً نزيهاً عفيفاً مؤمنا بالمبادئ الأخلاقية متمسكاً بها إلى حد كبير، وقد قضت عليه تلك العواطف السامية بالانقطاع عن الناس منذ أوائل عمره، فلزم بيته مشغولاً بنفسه و بشعره.

وتمسُّكُ نظامي بالروح الدينية،و الأخلاق السامية، فرضَ عليه أن يكون متزناً فيما يقول, فعلى الرغم من أنه نظم العشق,  إلا أنه كان عفيف اللسان، و تبحر في علم الفلك، وكان يُخضعُ كل ما تعلمه و مارسه للمبادئ الدينية التي حافظ عليها , فقد كان عارفاً معتدلاً و لم يكن صاحب شطحات، و لا متعصباً و لا منغلقاً على نفسه.

أما عن آثار النظامي، فقد ترك مثنوياته الخمس المعروفة باسم (پنج گنج), أو خمسة نظامي.

وشهرة نظامي تعود إلى تفوقه في ميدان القصص الرومانتيكي في الشعر الفارسي، و ما زال نظامي يحتل المكانة الأولى في هذا المجال الأدبي الهام, و لم يظهر أي أديب تفوق عليه في نظم القصة الشعرية حتى اليوم. و يمكن ترتيب هذه المنظومات الخمس حسب تاريخها على النحو الآتي:

مخزن الأسرار

خسرو وشيرين

ليلى و مجنون

اسكندر نامه

هفت پیکر

و يبلغ مجموع أبيات المنظومات الخمس ثمانیة و عشرین ألف بیت تقریباً.

ولعل اللافت في بديع إنتاج أديبِنا الفذِّ عند مطالعةِ المخزون الكتابي– وهو مما لا يعلمُهُ الكثيرون – أن نرى مدى اهتمامه بتدوين نصوصٍ مستوحاةٍ من الواقع العربي الثري، على رأسِها: نص (ليلى والمجنون) ضمن مُؤلَّفِهِ (الكنوز الخمسة)، والذي نسجَ خيوطَهُ من أحداثٍ تدورُ رَحاها في بلاد العرب بين فتى عربيٍّ هو  قيس بن الملوح وحبيبتهِ ليلى العامرية بأسلوبٍ ساحرٍ مُحكم، وهو امتياز يُعزِّز من الدلالةِ على نبوغ الكنجوي، ذلك النبوغ الذي أكده المستشرق الانكليزي إدوارد براون في كتابه (التاريخ الأدبي لبلاد فارس) حين شهد لشخص الكنجوي وموهبته بقوله: “وقصارى القول، إنه يمكنُ أن يوصفَ بأنه مزيجٌ من النبوغ الممتاز والأخلاق الفاضلة، إلى درجةٍ لا يعدلِها شاعرٌ .. كانت حياتهُ موضوعاً لدراسةٍ نقديَّةٍ دقيقة.

وعطفاً على ما سبق لم يكن من المستغرب في عددٍ من المدن العالمية أن يتم نصب تماثيله في محافل مرموقة على سبيل التكريم، إذ إن هناك تماثيل لنظامي بالإضافة إلى إيران ، في الصين و إيطاليا، ومنها التمثال الذي نصب في مدينة دربند الروسية، في المتنزه الذي يحمل اسم الشاعر ذاته عام 2019 .

كم يليق بهذا الشاعر الفارسي الفذ أن يكون صاحب الكنوز الخمسة فهو الشاعر الذي تفرد في أسلوبه و نمطه، ووشى شعره بالرومنطيقية العميقة و التماهي الوجداني مع الطبيعة, وتجلت عبقريته في رسم صور قصائده المتناغمة مع موسيقى مثنوياته. فترك للإنسانية إرثاً حضارياً  غنياً.

د.رنا جوني

تصفح المزيد..
آخر الأخبار