الوحدة : 28-7-2022
لا بدّ للمبدع من ذكاء لماح في التقاط كل جميل . ومن حساسية مرهفة في اقتناص اللحظات اللاشعورية ، ينحت في الصعب وينقب في ثنايا الأشياء لاقتناص أجوبة على أسئلة غير موجودة ، واختلاق الأفكار من كل ما تقع عينه عليه ومطاردة الخيالات المضنية والبحث عن السر الكامن في الكلمات. الشعر حالة إبداعية منفلتة من كل قيد ، ومتعة الإبحار بعيداً عبر الخيال ، سفر في الذات وفي الآخرين وفي مسارات الحياة ومنعطفات الأحلام يتميز عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى بالخيال القادر على منح المتعة والإدهاش لدفع المتلقي الى مناخات التنقيب والبحث والسؤال لإنتاج واقع أكثر صفاء ونقاء ، لكن مانلاحظه اليوم ضياع الشعرية في زحمة المفردات الخاوية وضبابية الألفاظ الجافة والصور القاتمة والتركيبات اللغوية المفتعلة والرصف اللغوي والإرهاق الجمالي التي تصب في خانة صياغة معقدة ضحلة المعنى والمضمون ، فالشعرية الضحلة تنتج أدباً هزيلاً ومعرفة زائفة ولا تشكل عمقاً ثقافياً او بعداً معرفياً ولا تساهم في توليد أفكار جديدة. الشعر سرج سامق على حصان جموح صعب الارتقاء والقياد ، وطاقة إلهامية مخبوءة في وعي الإنسان ومرآة كاشفة لما يدور في عمقه الجواني، وهو دون شيطان عصي صعب المنال ، هناك دواوين شعرية حققت حضوراً دائماً، وترسخت في الذاكرة الإنسانية ، وأبيات قيلت قبل أكثر من ألفي عام ومازالت تشع وتشدنا وتطربنا ، وفي زحمة الشعر والشعراء الآن نادراً ماتستوقفنا قصيدة وتلفت نظرنا ونادرا مانجد شاعراً له خصوصيته المتجددة ، فالشاعر مهندس العالم وحارم القبح من هزيمة الجمال،ومانح المعنى في زمن بلا أي معنى ، ومانع الشر من التسلل إلى الخير ، يخاطر بحياته ليمنع انحدار البشرية إلى الهاوية ، إنسان مشبع بحب الحياة وقوتها ، مشحون بالشاعرية المرهفة ومفعم بالأحاسيس الإنسانية الصادقة ، شاعر وصل الى مرحلة النضج النفسي والاتزان الفكري والبعد عن التعقيد اللغوي والرؤيوي يبدع قصائد رائعة التعبير قوية الأثر واضحة الصور فواحة العطر يكتب شعرياً بحروف ملتهبة تاريخ المجتمعات وآلام المقهورين. هناك متشاعرون أفرزتهم العولمة بهويات إبداعية مزورة ، فورة أدباء ابتليت الأمة بهم ، يحاولون أن يرتقوا الى مكان سامق ليسوا أهلاً له، باعهم الشعري أقصر من قامات خيالاتهم يهلوسون قصائد مملة بلهاء متخمة بالرؤى العقيمة والأفكار المريضة بمعان سطحية فاقدة المصداقية،وتعابير فانتازية مستهلكة عديمة الفائدة. شعراء فارغون إلا من كلمات طنانة رنانة وهم يبنون عوالم وهم لا تغذي الروح ولا تطرب الأسماع، كمن يخط عبارات على وجه الماء أو ينحت تمثالاً من الهواء، ولا تحمل هلوساتهم أي مضمون ينفع أو فكرة تقنع ، كمهور تصهل وتحمحم لكنها تكبو في أول السباق، حالهم حال الذين قطعوا الهواء بسيوفهم ثم جلسوا يبكون على الهواء الذي مات . الشعر باق ولو تعرض لبعض النكسات من قبل هذا وذاك ، لكنه تطل على القلب، حال من الكدر ونحن نقرأ الإصدارات الشعرية الكثيرة التي تحفل بما هبّ ودب،أعمال أدبية بالغة الهبوط لكثير من العاهات المتعطلة الإبداع نتيجتها إلهاء الأجيال،. الإبداع المفتعل العديم الشعرية يترك المتلقي في مناخ من العتمة والإبهام، كأنه سراب غيوم لا تمطر،وهو مانلاحظه حالياً من ارتداد وارتباك يصيب المتلقي بسبب غياب الشعرية ويودي به الى الحيرة والانكفاء والارتياب من القصائد الجديدة. فكيف يمكننا الوصول إلى المعنى من اللامعنى، وإلى الجدوى من اللاجدوى ،وإلى الفائدة من اللافائدة ، أو تحقيق الحلم من الخيال ..؟!
نعمان إبراهيم حميشة