الوحدة: 28- 4- 2022
حين أعود بالذّاكرة إلى ثمانينات القرن الماضي، تكاد لا تفارقني تفاصيل عملي التربويّ في أقصى محافظات المنطقة الشرقيّة، فقد كان بطلها زميلاً في التّدريس، يمرِّرُ وقته الرسميَّ، بتصرّفاتٍ غريبةٍ، أبسطها أن يملأ جيوبه طعاماً دسماً ويقول: رائحة الطّعام أكثر قبولاً من أجسادنا النّتنة>
وهكذا.. في كًلِّ يومِ يأتينا بمبادرةٍ عجيبةٍ ! تنتهي السّاعة الصّباحيّة الأولى، ليدخل في مناظراتٍ أذكر منها: الأسود نقيض الأبيض، أمّا باقي الألوان فنقائضها على اختلافٍ لم يتّفق عليه أحد؟! ويا ليته يتوقّف لحظةً عن تساؤلاته؟ بل يذهب بعيداً في جلساته المسائيّة، فذات مساء: أقنع الحاضرين أنّ الرّجُل والمرأة لا يكملان بعضهما، مستدلاً بذلك على انتشار الطّلاق كأغاني (الكراجات) والمطاعم الرّخيصة!! في المدرسة كان يقول لطّلابه: لن أقيّدكم بثمانٍ وعشرين حرفاً هي حروف الأبجديّة، بل استخدموا ما تشاؤون، على أن تفهموا ما تكتبون، ويكون له الأثر في حياتكم، فالتشكيليّون خرجوا عن المألوف ورسموا لوحاتهم بأحاسيسهم، فَبَدَتْ مع ألوانها كمخلوطةٍ طبختها امرأةٌ ريفيّةٌ ولا أطيب! أما أنا فكنت أشدّ الحرص على العودة به من ساحة القرية، خشية تعرّضه لسخريةٍ قاسيةٍ، فأقلّما يمكن فعله أن يسير خطوتين إلى الأمام، ثم يتقهقر واحدةً إلى الوراء، يعلّل ذلك بقوله: إذا كانت جيوش العالم كُلّها تتقدّم خطوةً، وتعود أدراجها أخرى، في النّهاية لا أحد ينتصر، فما بالكم ونحن بشرٌ؟ لم يكمل عامه الدّراسيّ، وغاب عنّا دون توديعنا، ومن يومها لا نعرف عنه شيئاً.
سنون مضت ونسيته تماماً، إلى أن التقيته قاضياً في محكمةٍ!! رحّب بي بما يحيّر الوصف، وقال لي بضع عباراتٍ في ثوانٍ قليلةٍ تلخّص جلسة أحاديث تدوم لساعات! بعد المقابلة الرائعة: استضافني على مائدةٍ تصْلحُ حُلماً؟!! قبل أيّامٍ رحل عن عالمنا، تاركاً أبناء يمارسون الاختصاصات الطبيّة والعلميّة العالية، وقد تبوّؤا مواقع اجتماعية ورسميّة، فيما أبنائي يتخبّطون بأشباه المهن الصّغيرة وهوامشها، تنهشهم الحاجة ويُطاردهم العوز.
سمير عوض