أقلام شابة.. وقائع مواجهة علنية

العدد: 9320

26-3-2019

علمتني أمي كيف أواجه الثور في حياتي، وهذا الثور فاق بقدراته الأخطبوط تحولاً وتلوناً، فمرة كان عصفوري الذي مات حين كنت صغيرة، ومراتٍ كثيرة فشلي في حل مسألة رياضية أو تحليل فكرة أدبية، أو إخفاقي في أداء لوحة راقصة، أو كان مديري اللص الذي سرق أحلامي في العمل، أو قصة حب فاشلة، أو الدين بلحيته السوداء، و آخرها – تلك التي لن أنساها أبداً – حين كبر الثور و أصبح حرباً وحلبة مصارعته المدّماة باتت شارع بيتي.. في ذلك اليوم حين تهاوت القذائف بغضب ألف ثور هائج على رؤوسنا، أصرت والدتي، ككل الأمهات السوريات، على الخروج معها والمشي في شوارع المدينة العارية، رغم أن الخروج في مثل هذا الوقت انتحار، خاطرت بحياتها كي أتعلم كيف أغلق فاه الخوف من الموت إلى الأبد، ولكي تحذرني من أخطر أنواع الثيران .. . تلك التي تقبع في داخلي . .. ومازالت والدتي لليوم تقاتل على الخطوط الساخنة أكثر الثيران همجية وقساوة… لكنها اليوم ستقاتلهم علنا، فكعادتها منذ أكثر من خمسين عاماً استفاقت صباحاً باكراً على بيت يختصر الغياب والسكون… يجتر الذكريات بمرها وحلوها .. . يغريها على البكاء بصوت عال… لكنها لن تبكي… فهي لم ولن تكون من حزب الضعفاء، هي أذكى من أن تعيش بتعاسة كغيرها من النساء، فمازال هناك من يرافقها من أصدقاء هذا العمر العبثي، فنجان قهوتها الصباحي وسيجارة هجرتها وصوت معشوقتها إيديت بياف… على أنغام الأغنية الفرنسية «لا أندم على أي شيء» تأملت صورة والدتها بالأبيض والأسود وصورتي ابنتيها المغتربتين . . تعذبها الصور كمن يشد الروح عبر ربط أطرافها بأحصنة هائجة… لماذا يختصر الجميع أنفسهم إلى صور في حياتها.. . سؤال لطالما أرهقها وأرقها. . ولتروح عن نفسها بشيء من الدعابة تستجر من الماضي ذكريات عن هيبة ودهاء والدتها الأمية حين كانت تساعد أولادها التسعة في مراجعة الدروس المدرسية، فقد أمضت عمراً كاملاً تسمع لهم الدروس شفهياً وكتابياً فتعاقبهم إذا أخطاوا و تكافيهم إذا أجادوا و هم لا يعلمون أنها لا تستطيع القراءة أوالكتابة.. ثم تضحك كثيراً حين تروادها فكرة ماذا لو تعلمت والدتها القليل من الكتابة إذاً. . لربما كانت احتلت العالم.. ولشوقها الشديد لحاضرها تترك الماضي ليرقد بسلام قليلاً، فالشمس بدأت للتو تتسلل من بين شقوق البيت القديم لتكشف عن ملامح الوجوه في صورتي ابنتيها بشكل أفضل . . صارت تتأمل صورة ابنتها الصغرى ذات العينين الحزينتين وتتساءل: (كيف كنت على ثقة أن واحداً من هذه الصواريخ لن يصيبها حين أخذتها مشياً على الأقدام؟؟) ترتعد للحظة.. ثم تترك السؤال مفتوحاً كما كل الأسئلة السابقة في حياتها مستسلمة لصورة ابنتها الكبرى وزاوية أخرى كانت مليئة بالحياة من البيت، فهنا كانت ابنتها الكبرى تنام بعمق بعد يوم طويل من الفرح الذي تدخله لقلوب العائلة… وتتعجب من نفسها قائلة: (كم صبرت حتى صنعت من هذه الفتاة امرأةً وأماً ناجحة!… يا الله كيف يمر الوقت بسرعة ما زلت أشعر بين يدي طفلتي المدللة والآن صديقتي المفضلة) … ازدحام الذكريات اليوم جعلها تعيش وتنتقل بين عوالم مختلفة، من دمشق حيث كانت عائلتها للبلاد العربية والأجنبية حيث ابنتيها.. لكن بالطبع لن تنسى أن مازال لديها أولاد في الوطن ولن تسمح لقيد الذكريات بشد وثاقه أكثر من ذلك على روحها… فبعد لحظات الصباح التي غسلت فيه قلبها النابض بالحياة والحنين ترتدي ملابس تبعث الدفء والأمان والفرح في قلوب من سيراها اليوم… فدورها لم ينته بعد .. . هناك جيل جديد ينبثق من العائلة بانتظار عطائها رغم كل الجروح.. . وبشجاعة ألف فارس قامت مرة أخرى لتصارع ثوراً آخر اليوم. . هي في انتظار أحفادها وحفيدتها التي سهرت الليالي لتحيك لهم القبعات الملونة لتدفئهم جيداً في شتاء الحرب القاسي.. . لكنها لا تعلم أن كلتي ابنتيها المغتربتين استفاقتا اليوم باكراً مثلها، و جلسن يتأملن الصور مثلها، و يتساءلن الأسئلة ذاتها، وتحضر كل واحدة منهن القهوة العربية ذات الرغوة والنكهة العسلية والرائحة الذكية مثلها، وتفتح كل منهن المذياع ليس على صوت ايديت بياف فقط بل على إحدى محطات البث السورية أيضاً، ليتسنى لهن إحياء لحظات سورية في المنفى. .. لحظات إلهية . .. لحظات قدسية. . تكرم فيها الأمهات السوريات المناضلات. .. فهي لا تعلم أن هناك نسختين منها في مكانين مختلفين من العالم للتو بدأتا بمصارعة الثيران علنا اليوم، وبمثل قوتها وجبروتها، وإيمانهن أنهن سيغلبن أي ثور قادم مهما كبر واستشرس وتمدد… وفي لحظات ما من هذا الصباح القدسي تتساءل كل واحدة منهن متى وكيف حدث أنني أصبحت أمي.

هبة محمد

تصفح المزيد..
آخر الأخبار