الوحدة 23-3-2022
الإبداع يضيق بالجدران, الكاتب والفنان لا يكفان عن المحاولة إلى أن تنهار أمامهما المعوقات والسدود ما يعرضهما أحياناً إلى تهمة المروق والهلوسة والشذوذ والجنون, أدب الطرقات نمط كتابي ونوع أدبي ساهم الظرف العالمي في أواخر القرن التاسع عشر في نموه , حيث الشارع هو المخزون الخفي الذي لا ينضب الذي يغذي مخيلة الكاتب , عالم سحري يمنحه كل شيء ويبحث فيه عن فلسفته في المعرفة والحياة بعيداً عن الاصطناع والابتذال.. الشاعران الفرنسيان رامبو وفيرلين اعتادا الحياة الحرة والمغامرة المتوحشة , جمعتهما صداقة حميمة وصلت إلى الهيام والجنوح, عاشا الجحيم روحاً وجسداً وعرفا التشرد والجوع والإذلال والرفض , ومارسا الانحطاط والرذائل في مسائل كثيرة من حياتهما المضطربة بأفعال غريبة تعبر عن تبرمهما بالمألوف ورغبتهما في الإقامة خارج القوانين الوضعية والأنظمة السائدة. أدب الطرقات أعمال أدبية تمثل مزيجاً من الشخصيات من أعمار وطبقات وأخلاقيات ومهن متفاوتة, مراهقين وبالغين وعبيد ومحررين وسادة وأحرار, موظفين ومحتالين, محصنات ومومسات تتحرك جميعها في سياق اجتماعي وأحداث ضاحكة وباكية بعلاقات تختلط فيها الصداقة بالكراهية والوداعة المفرطة بالعدوانية الحادة مسرح أحداثها الشوارع والطرقات الموحشة والليل الصامت الذي يسمح للإنسان بسماع ضربات قلبه والأكواخ التي لا يفصلها عن الحياة أو الأفق المتناهي إلا سقف هش من أوراق وأغصان الأشجار والعيش في أحضان الطبيعة حيث فردوس الحسية والحياة البدائية الصافية والعادات العفوية, أدباء لا يتعاملون مع الأمكنة تعامل الغريب بل جعلوا أحلكها وأوعرها رمزاً للحميمية والألفة والدفء.. الكاتب التقدمي الأمريكي هنري ميللر نشأ في شوارع بروكلين بصحبة أبناء الشوارع مثل قطاع الطرق الأمريكيين , لم ينكر الحياة التي عاشها نقلها على بياض أوراقه ليخلق منها حياة أخرى نابضة بحرارة العيش ومرارة الواقع : ( كنت أسير في شوارع مدينتي نيويورك أبحث عن بعض السنتات , عن كسرة خبز أو عن عمل, أو ركن أهوي بجسدي المنهك عليه , لقد قطعت آلاف الأميال ببطن فارغ مثل متسول.
في العمق كتبت اليأس. أدب الطرقات يرفع فيه العقل الكلفة مع الطبيعة مشاعر مجسده بالكلمة دون افتعال أو تصنع أو رتوش مستوحاة مما عاشه وعاناه كتابه في الطرقات من مفارقات صارخة وعوامل خيبة وانكسار وتشاؤم واضطرابات حياة وأصبحت خامة لعمل أدبي وعرف أصحابه برفضهم الملكية وتمجيدهم الفوضى والعلاقات الحميمة واحتقارهم للحروب. كاتبة الشوارع الأمريكية كاكي كولينز الذائعة الصيت شقيقة الممثلة السوداء والنجمة السينمائية الشهيرة جوان كولينز يتهمها النقاد بأنها مجرد كاتبة فضائح وإثارة وعنف ورغبات وعواطف مدمرة , لاتلتفت لما يقوله النقاد عنها ولا تهتم بهم ولا تعيرهم انتباهاً , وأن ناس الشوارع هم نقادها الحقيقيون ,وأن نقاد الصحافة هم كتاب فاشلون تحولوا إلى النقد.
أدباء الطرقات هائمون يعيشون حريتهم المطلقة في مهب الطريق, شذاذ آفاق اقتحموا عوالم الكلمة ينوسون بين حضيض عاداتهم وأعالي كلماتهم وانفلات عيشهم ومعاقرة كل ممنوع, يستندون على مخيلة متوهجة تفتح أمامهم مصاريع اللغة والصورة أدباء وصمت حياتهم بأبشع الصفات والألقاب عاشوا الحياة امتلاء بإثاراتها الملونة الطافحة باللذة والعارمة تجريباً , صالوا وجالوا وضاهوا أبطالهم على الورق جنوناً وصل إلى حد الشذوذ وقلبوا الحياة على مختلف وجوهها وأثمرت كلماتهم أدباً له طعم الحياة , يقول الفريدي موسيه: ( أنا على قناعة كاملة أنه يجب أن يحيا الأديب حياة سيئة ليكتب أدباً جيداً) .
الأديب الأمريكي جاك كيرواك امتهن حياة التجوال والتشرد في بداية حياته ولم يع أن خاتمتها ستوصله إلى امتشاق القلم وتفريغ ما يجول في ذهنه من أفكار , ترك دراسته الجامعية بحثاً عن مستقبل ضاع في بداية العثور عليه , روايته ( في مهب الطريق) كانت سبباً في شهرته والتي كتبها عندما كان يعيش في أحد شوارع مانهاتن على أوراق ألصقت إلى بعضها حتى تجاوز طولها ثلاثين متراً وكان يقول : ( لو تفرش الكلمة على الأرض سيحصل لدينا انطباع وكأننا فعلاً في مهب الطريق).
نعمان إبراهيم حميشة