الوحدة:8-3-2022
على الرغم من كل ما ينسب إلى عصر السلاجقة من أحداث وفتن ومكائد واضطرابات، ومع كل ما رافق انهيار الخلافة العباسية من صراعات وثورات وهجرات ضخمة، وتغير ديمغرافي هائل على امتداد رقعة مكانية مترامية الأطراف تضمّ فيما تضم إيران وأفغانستان ووسط آسيا والعراق والشام والأناضول والقسطنطينية، من عام 1037 وحتى عام 1194، وعلى الرغم من أن مؤرخي الأدب والمفكرين يدرجون هذا العصر في خانة عصور الانحطاط إلا أن ثمة حقيقة ساطعة لابد من تأكيدها ومفادها أن أعظم المؤلفات الأدبية بعامة والشعرية بخاصة عرفها هذا العصور.
لابد من التأكيد أيضاً على أن هذا العصر هو عصر التصوف بامتياز، إذ إنّ ثمة عدداً كبيراً من المتصوفين الدين عاشوا في هذا العصر وقدموا تراثاً صوفياً إبداعياً لم تعرفه العصور السابقة ولم تتجاوزه العصور اللاحقة البتة، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر عمر الخيام (1038-1123) والسهر وردي (1154-1191) وابن عربي (1164-1240) وابن الفارض (1181-1234) وفريد الدين العطار (1146-1221) ولكن ثمة اسماً قلّما تذكره مؤلفات المؤرخين والباحثين العرب، ولطالما اختلف حول نسبه ونشأته، على الرغم من كونه أهم شاعر عرفه العصر السلجوقي واهتم بكتابة الشعر الملحمي الذي لم يكن معروفاً في تلك الرقعة المكانية والحقبة الزمانية التي أشرنا إليها آنفاً.
إنه جمال الدين أبو محمد إلياس بن يوسف بن زكي المعروف بــ نظامي كنجوي ونظامي كنجوي لم يكن أذربيجانياً نسبة إلى مكان ولادته، ولم يكن أفغانياً لتنقله في مرحلة من مراحل حياته في تلك البلاد، ولم يكن كردياً نسبة لأمه، ولم يكن طاجيكياً لأنه عرف تلك البلاد نظامي كنجوي الذي ولد عام 1174 وتوفي عام 1209، كان فارسياً لغة وثقافة وتراثاً وأدباً ومعرفة ، وكرَّس حياته لخدمة اللغة الفارسية التي كتب فيها أروع الكتب وأغزرها مادة شعرية ملحمية لم يكن لها نظير، ولم يعرفها أحد غيره.
يكفي أن نذكر ها هنا رائعته الموسومة بـ (بنج عنج) أي الكنوز الخمسة، وهي عبارة عن خمس منظومات قصصية كتبت شعراً وتضم في ثناياها الكنز الأول المعنون بـ ( مخزن الأسرار)، ويشتمل على كثير من النكات والنوادر والحكايات، منسوجة بأسلوب ملحمي ونزعة صوفية.
والكنز الثاني حمل عنوان (خسرو و شيرين) وهو عبارة عن قصة تحكي مغامرات الملك كسرى وغرامه بمعشوقته شيرين، وتضم سبعة آلاف بيت من الشعر.
وأما الكنز الثالث فوسمه المؤلف بـ (ليلى ومجنون) وتقع أحداث هذا الكنز في بلاد العرب وتشتمل على أربعة آلاف بيت من أبيات الشعر، ووسم الكنز الرابع بـ (العروش السبعة) وتشتمل على خمسين ألف بيت من أبيات الشعر، ثم يأتي الكنز الخامس تحت عنوان (كتاب الإسكندر) أو (إسكندر نامه).
مما لا ريب فيه أن هذه الكنوز الخمسة هي التي جعلت من شاعرنا نظامي كنجوي ذلك العالم العظيم الذي أخذ مكانة مرموقة لدى أن هذا الشعر حكر الغربيين والذين اكتشفوا فيها شاعراً ملحمياً رائعاً كانوا يظنون على الشعراء الأوربيين الذين أخنوه عن اليونانيين والرومان ,ولكن الواقع يقول إنَّ فن كتابة الملحمة عرفته شعوب وأمم كثيرة, وبالتحديد الأمم التي تنحدر من الشرق ولا مناص في هذا السياق من القول: إن شاعرنا كنجوي كان ينهل معرفته ليس من الكتب التي توفرت له ,وليس من تأثره بجلال الدين الرومي الذي سبقه بأكثر من مئة عام, بل من حياة الناس ومن احتكاكه بحكايات شعبه ,وعشقه لحكايات البسطاء ,وليس غريباً أن يبادله شعبه هذا العشق .
وها نحن اليوم وبعد مرور ثمانمائة وثلاثة عشر عاماً على وفاته, ولاتزال الحشود الشعبية في إيران تتوافد لزيارة ضريحه, ولا تزال الجهات الأهلية والحكومية تحتفي بتراثه العظيم من خلال عقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات والأنشطة المتنوعة , حول مجمل أعمال هذا الشاعر العظيم الذي لم يكن سوى ذلك المعلم الذي دعا إلى الاستقامة والعمل الطيب والأخلاق الحميدة وتمثل القيم والمبادىء الإنسانية فلا غرو أن يطلق عليه في إيران ( شاعر الفضيلة) وهوالقائل :
چون به عهد جوانی از بر تو
بر در کس نرفتم از در تو
همه را بر درم فرستادی
من نمی خواستم تو می دادی
أي ( لزمت بابك منذ الصبا , ولم أسع إلى باب سواك فأرسلتهم يا إلهي جميعاً إلى بابي, وأفضت النوال دون سؤال) فالزهد والموضوعات المتعلقة بالأخلاق والتربية والتعاليم الإنسانية في الإسلام , هي بعض مفردات شعر كنجوي الذي غاص في عمق المعرفة لينسجها شعراً متوهجاً لا تنطفىء جذوة بهانة عبر العصور.
تمر في هذه الأيام الذكرى( 881) لميلاد هذا الشاعر والمفكر الصوفي الذي يحتاج إلى قراءات علمية معمقة لتعرف مواطن الأسرار ومقومات الإبداع عنده .فالقارىء يحتاج إلى زاد علمي في الفلسفة والشعر والحكمة والمنطق , كي يكون قادراً على سبر أغوار التراث الأدبي المهم الذي تركه هذا الشاعر الفذ.
د. محمّد إسماعيل بصل