الوحدة 28-2-2022
التناقض يلازم الكثير من الكتاب بين ما يكتبونه وما يمارسونه من سلوك يومي
و معظمهم يعاني ازدواجاً في الشخصية, فهم رومانسيون في حياتهم الشخصية الخاصة من جهة و صادمون من جهة أخرى, وغالباً ما يحكم على الأديب من قبل أفراد مجتمعه بأنه غريب الأطوار و يتهمه بعض المقربين بأنه مصاب بحالة من انفصام لا دواء لها… كاتب الأورغواي كارلوس ليسكانو يقول: ( الكاتب دوماً اثنان , ذلك الذي يشتري الخبز و البرتقال و يجري الاتصال الهاتفي و يذهب إلى عمله و يدفع فاتورة الماء و الكهرباء و يحيي الجيران و الآخر الذي يكرّس نفسه للكتابة, الأول يسهر على حياة المبتكر العبثية و الانعزالية إنها خدمة يؤديها بكل سرور)…. الشاعر التركي المناضل ناظم حكمت حافظ على حالة متأججة من العشق و كتب عشرات القصائد المعبرة عن حبه و لوعته لعدم تمكنه من رؤية زوجته منور عندما كان في السجن الذي استمر لسنوات, و بمجرد خروجه منه هاجر إلى روسيا تاركاً إياها مع استمراره بكتابة الشعر فيها…؟!.
يتمنى الكاتب أن يعيش حراً طليقاً من أية قيود أدبية أو اجتماعية, و الحرية التي يعيشها الكاتب في حياته العامة و يروج لها في أدبه و نصوصه الإبداعية يقابلها في بيته بإصدار الأوامر وممارسة القمع و اتخاذ القرارات نيابة عن الآخرين الذين يعيشون معه سواء كانوا أبناءه أو زوجته و حتى أقاربه, فالشخص الذي يكدح ليل نهار من أجل لقمة العيش هو الشخص نفسه المسكون بالرؤى والحالم والمليء بالتصورات عن عوالم سحرية وحكايات عشق تخرج العالم من كل ما هو أرضي ودنيء.
عندما كتب بودلير قصيدة (سماء غائمة) التي تعد من أجمل قصائد ديوانه الخالد (أزهار الشر) كان يرتجف من البرد والقهر في أحد فنادق باريس الرخيصة، بينما رامبو كتب أروع قصائده أثناء تشرده في شوارع باريس وأزقتها الخلفية حيث الفقر والتشرد والحرمان.
بين الأديب والواقع حواجز تمنع الرؤية أو تحدها والإصرار على بناء جدار من العزلة حوله وقد أوصد كوى جوانحه وخياله وتغليف نفسه بالبرودة والصقيع وهو يشحذ قريحته لاستنتاج المعاني، وتتجلى في التفاعل غير المتكافئ مع المجتمع، وقد كان الفيلسوف الألماني نيتشه كلما تقدم به العمر يزداد جنوناً وسخرية من الإنسانية وبغضه لنفسه وعزا الكثيرون سبب جنونه إلى خيبة أمله في مغامرته العاطفية عندما نبذته المرأة التي أحبها وكان يرغب بالزواج منها، .. قال كاتب مغرور للكاتب الساخر جورج برناردشو: (أنا أفضل منك) فأنت تكتب بحثاً عن المال، وأنا أكتب بحثاً عن الشرف، فقال له برناردشو: (صدقت فكل منا يبحث عما ينقصه).
الأدباء يعيشون تناقضات كثيرة، تراهم متسامحين في سلوكهم الاجتماعي لدرجة تصل أحياناً إلى حد البلاهة والغباء, وقساة ظالمين في جوانب أخرى تخص حياتهم وإبداعهم, أحرار إلى حد الانفلات في بعض المواقف ومقيدون إلى درجة يخال لمن يراهم أو يسمعهم بأنهم في سجن غير مرئي لا يستطيعون التحرك خارج حدوده الضيقة, وعند المقارنة بين نصوصهم وما يمارسونه داخل منازلهم وأسرهم, فالكاتب الذي يعيش بيننا ويتجول يراقبنا بنظرات ثاقبة هو ذاته الذي يحدثنا عن مخلوقات غير مرئية منها ما هو أرضي ومنها ما هو سماوي وهو الذي يكشف لنا زيف العالم وإجرام البعض ويقودنا عبر رؤياه وحدسه إلى كهوف القتلة والسارقين ويشير بقلمه إلى الخلاص والحرية, وهو نفسه الذي تراه يصرخ في وجه زوجته ويتسوق ويتشاجر مع جاره ويضرب ابنه وغيرها من التصرفات البشرية اليومية, وإذا كان الكاتب امرأة تلاحقها الأسئلة حول أمومتها وإذا كانت قد حبلت وأنجبت وأرضعت وربت أبناءها كبقية النساء…
عندما انتحر الكاتب أرنست هيمنغواي عام 1961 قال عنه الكاتب جون شتاينبك
( لقد كان مغروراً جداً، خلق صورة مثالية لنفسه ثم حاول أن يعيشها) ثم تنتهي حياة شتاينبك بالانتحار مع رسالة تدين الحروب في العالم.
عند انحسار شخصية المبدع عن الكاتب يعود شخصاً عادياً ويبدو في عيون من حوله شخصية ثقيلة الظل لا تبهج عيناً ولا تسر قلباً، وهناك الكثير من المعجبين عند رؤيتهم لكاتب أحبوا نصوصه الإبداعية يصابون بالخيبة والإحباط وفقدان الأمل.
نعمان إبراهيم حميشة