المذكرات… ديمومة حياة

الوحدة: 23- 2- 2022

 

الذاكرة مستودع ماضي الإنسان يتم فيها الحفظ والاسترجاع والتعرف والنسيان والاستذكار وعند غيابها فإن محصلة وجود الإنسان يساوي العدم ولا يبقى منه سوى المخزون في المتاحف وفي ذواكر الناس والورقة سحر يقوم مقام الذاكرة، والأدباء يستثمرون ذاكرتهم لصالح ما يكتبون دون أن يجرؤوا على الاعتراف المباشر أو السرد الواضح لحياتهم، يفلشون أسرار حيواتهم عبر مذكراتهم وأعمالهم الأدبية التي تنبض بواقع سيرهم الذاتية حيث الكثير من الأحداث والتفاصيل التي عاشوها وعايشوها ويفضلون الاختباء وراء أسماء وهمية على أنها لا تخصهم وبعضها يشكل قيمة مضافة تضاف إلى رصيدهم الإبداعي.

المذكرات موضوع شائك ومعقد ومفتوح على جميع المطبات والاحتمالات والكثير من الأدباء والسياسيين نأؤوا بأنفسهم عن الخوض فيه، ينطلق السرد فيها من الذات وتخضع لظروف وعوامل شخصية واجتماعية وسياسية وتختلف تبعاً للحياة التي عاشها كاتبها..

الشاعر والدراماتورجي البريطاني توماس سترينز إيليوت كان يغار على خصوصياته وضع شرطاً لمنفذي وصيته الأدبية يتلخص في الامتناع عن نشر سيرته ورسائله الموجهة لزوجته فوق صفحات الجرائد والمجلات فقامت أرملته فاليري بتوظيف عدد من المحررين والمدققين اللغويين وقامت بنشرها في مجلدات للحفاظ على هذا الكنز الأدبي الثمين.

تدوين المذكرات هو استعادة الماضي وتمجيد حضور كان بأسلوب أدبي بما يشبه انتفاضة شباب متأخرة أو أخيرة لتوثيقه قبل أن يفتك الزمن به ينبش الأديب في ودائع العمر المحفوظة في الذاكرة ويبوح بأشياء يعلم أنها ستطفو على السطح وتظهر للعلن حيث تحوي المذكرات اعترافات خاصة مثيرة للجدل بعد حياة مليئة بالصخب المتنوع… الكاتب البريطاني ديفيد هربرت لورنس صاحب الروايات الشهيرة (أبناء وعشاق – نساء عاشقات – عشيق الليدي تشاترلي) عشق والدته حتى المجون إلى درجة الهيام والغرام ولم يتزوج حتى توفيت وهو ما أثر على علاقاته العاطفية لاحقاً وقد أكدته زوجته فريدا ويكلي التي كانت قبلاً زوجة لأحد أساتذته بأن زوجها لورنس عاش عقدة أوديب صاحب الروايات المنفلتة التي لا ضابط لجريان الأحداث فيها وهي تعالج العلاقات الأسرية والزوجية الغرامية بكل تفاصيلها وأبعادها والعلاقة بين رجال منطوين على أنفسهم وبين نساء منفتحات على الحياة ووصف الأحاسيس الوجودية وساعات الحب والوصال ومطارحات الغرام بين من يحبون ويعشقون ونظراً لإباحيتها قامت الرقابة بمنع بعضها من التداول.

بعد شباب متوهج تلح الحالة على تدوين وثائق نجاح وتثبيت لحظات مختارة من التاريخ الشخصي كي لا تمحى الحدود الفاصلة بين الحقيقة وظلها…  الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر صاحب الوجود والعدم استوحى أفكاره الوجودية من الماركسية والغينومنولوجية.

(علم الظواهر) صاحب المواقف المتناقضة والشهوانية التي كانت بلا حدود تزوج من الكاتبة الشهيرة سيمون دوبوفوار وكان مرشدها خلال مسيرة دربها وكانت علاقتهما مثيرة للجدل حيث إن التحامهما كان بقدر انفصالهما، عاشا بشغف لا ينضب للحياة وحافظا على الحرية المطلقة في عيش الحياة كنزهة زمنية تشاركاها في ظمئهما للمطلق وانفصالهما في المسكن ونجحا في تحويل الشخصي الدفين إلى إرث عمومي إنساني، وحوت رسائلهما المتبادلة أدق تفاصيل حياتهما الحميمة على الورق وآخر عشيقات سارتر الروائية الفرنسية فرانسواساغان التي كان يصطحبها إلى المطاعم الفخمة والملاهي والفنادق والتي أحبته كاتباً وإنساناً وأصبحت المرأة الثانية في حياته، وكان يدعوها (الشيطانة ليلي) ويقول:  (هل تعلمين يا طفلتي أن لدي تسع نساء في حياتي ما عدا دوبوفوار)، وقد كانت السنوات الخمس في حياة سارتر شاقة وعسيرة فلم تكن بوفوار تتحمل رؤيته كرجل أعمى يفرط في السهر والشراب والسجائر والنساء، وداهمت الغرغرينا ساقيه إلى أن رحل عام 1980 ورحلت بوفوار عام 1986 وأسدل الستار على 51 عاماً من الشراكة المعقدة ولم يتح له قراءة ما كتبته شريكته عنه في المذكرات التي حملت عنوان (وداعاً سارتر) ووثقت فيها سنوات حياته الأخيرة.

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار