قراءة العابر المقيم في مجموعة (في قسمات الغياب)

الوحدة:28-11-2021

(في قسمات الغياب) مجموعة شعرية للكاتبة اللبنانية نسرين أحمد بريطع، وهي في مائة وسبعين وثلاث صفحات تتميز بأسلوب سردي مشتق من الأسلوبين القصصي والروائي وهذا ما نجد تفسيره في كون هذه النصوص هي مجموعتها الشعرية الوحيدة بين بقية أعمالها وجميعها قصصية وتأثراً بذلك تتسيّد اللغة الحكائية صفحات المجموعة جاذبة النصوص بجميع عناصرها الفنية نحو السيرة الذاتية، و الرواية حيناً، والقصة القصيرة حينا آخر.
تقارب النصوص الهموم الأنثوية اليومية الآيلة إلى سعادة مسروقة، أو حزن مُهدى، أو ظلال خاوية، أو بدايات آيلة إلى انتهاء:
تصوّر أيها العزيز، أن تستيقظ يوماً لتعلم أنّ حياتك كلها حلم، والحقيقة الوحيدة فيها، أنك غير موجود.
في المجموعة قسمان هما (على شفاه الزمن) و( همس الحروف) وفي القسم الأول أكثر من أربعين عنوانا لنصوص تتراوح بين الطول المتوسط، والقصير جداً تُهوّم في عالم الروح تمجّد الحب والحياة، وتتوحد مع الطبيعة فتحصي عناصرها وتظهر أجمل مواطنها وأزمنها فمن مواطنها الرياض والغابات بأشجارها وأطيارها وأزهارها وسواقيها، ومن أزمنتها الفجر والهجر والوصال، وقد تصدّرت نصوصًها كلمات مفتاحية هي الوهم والحلم والخيال، وكلّها تنتمي إلى عالم واحد هو اللا متحقق والمشتهى والمستحيل في آن معاً.
تنبثق النصوص من وجدان الشاعرة حاملةُ تناقضات الشروق والغروب، والصِغَر والكِبَر، والذبول واليناع، والولادة والموت، والأنا والأنت وجدليّات لا تنتهي وفي هذا الوجود الشعري المتناسل المتوالد أبداً كلُّ شيءٍ هو كثير وقليل في لحظة واحدةٍ، الرقص والجمر والقيثارة والموسيقى والورد والدروب والأنغام، وهكذا نلمح تفوّقاً لغويّا ظاهراً يحقّقه الجمع على المفرد عدّة وعديدا و هذا أمر مقصود لذاته ؛ و مقصود لغيره أيضاً من مفاهيم تخدم الجماعة، و تحدّد مصيرها كما هو مقصود للدلالة على أهمية الإنسان النوع لا الفرد.
وكم تبدو النصوص رجع صدى لقراءات سابقة عن سابق تصوّر وتصميم ؛ففيها تلبية نداء، وإجابة سؤال، ومشاركة وجدان، وفيها حكاية أزلية أبدية تتكرّر وتتكرر بلا نهاية، وترسب في أعماق ضمير الوجود، حكايةً تروي كيف يتحوّل الإنسان بكلّ زخمه وأخذه وعطائه وبكلّ ملامحه وألوانه إلى عوالم من حروف فيسطّرّها الكتبةُ على صفحات الزمن في كتابه الكبير حتى تشعر وأنت تقرأ ما خطتّه يدا نسرين بريطع بأنك تقبض على صنائع صانع خفيّ صوفيّ الهوى والسمات يتأكد لنا ذلك عن طريق اختصاص نسرين الجامعي إذ تحمل شهادة في الفلسفة والإلهيات وإذا تجاوزنا المضمون المكرور في النصوص لتكراره في الحياة وصولاً إلى اللغة سنعثر على المذكر والمؤنث متعالقين في تشكيلات لغوية مختلفة مستقاة من الطبيعة المصدر الأصل حيث الزهرة و الفجر والسكون والظلمة والشمس والزنبقة والكون والصباح … فالشاعرة تقوم بإسقاط حالات الطبيعة من عطش وري وماء على حالاتها كامرأة وشاعرة:
حتى التراب ينتظر، يشتاق، تفضحه رائحة الحنين، إذا ما عانق رذاذ المطر، حبيباته الناعمة بشوق ولهفة..
وفي قصائد المجموعة قصص حب ليست غريبة عن القارئ أو بعيدة عنه بل هي قريبة جدّاً إليه، شخوص تتبادل مواقعها ومشاعرها في حبّ كونيّ جامع ولذلك ترى الشاعرة منهمكة بكل شيء، حتى أعمار الزهور وعبر خطاب رومانسي شفاف لضفاف الحياة الراحلة تنظم قصائد تدعو الإنسان للعيش الممتلئ حبّاً وفرحاً وتسامحاً يُثمّن العطايا الإلهية التي لا تنضب ولا يعرف الإنسان قيمتها إلّا بعد أن يفقدها:
ترى كيف يأنس لجمال الشروق، وانسيابه في شرايين الفجر، من سلبه القدر نور عينيه.
وللغياب وجه يجمع كل ملامح الحياة المتناقضة من حزن وفرح، وسعادة وشقاء، وسموّ واتّضاع هذه الملامح المشمولة بعناية الشاعرة حيث تفهمها ببساطة، وتعرضها دون تعقيد، كما هو واضح في عناوين النصوص، ومضامينها على حدٍّ سواء حيث الغناء والعاطفة والحلم، ورحلة تقليدية إلى الحبيب على درب مزروعة بالشوك والشوق والدمع والموت (اللذيذ) على حدّ تعبيرها عبر تبا دل لغوي بين رجل وامرأة يميلان على جانبي الروح والجسد معاً وصولاً إلى ثُمالةٍ وجوديّةٍ مُخلّصة فإذا فشلت المرأة في الحب تبحث عن طريق آخر للخلاص.
ديدن الكاتبة ثنائيات متضادة (هجر ووصال) و(منك واليك) و(موت وولادة )… بحثاً عن اتحاد يحوّلها إلى قلم بيدِ حبيبها فتشاركه أبجديته، تلك شكوى أنثى تبثّ الورقَ آلامَها فلا تجد موسماً للكتابة خارج أرض الحزن.

د. وضحى يونس

تصفح المزيد..
آخر الأخبار