العـــــدد 9315
الثلاثــــــــاء 19 آذار 2019
((تراتيل شفيفة يدمدم بها المطر على النّوافذ المغلقة، رؤوس الأشجار تعصفُ بها ريحٌ باردةٌ هوجاء.. الوقت يتسّرب من بين الأصابع مع قطرات المطر المتساقط في الخارج خيوطاً من نور . .. خلف تلك النّافذة التي تُقبِّل الرّيح زجاجها، تقف متأمّلة بصمتٍ حنون، تتسرّب دمعاتٍ من بين كلماتها الغافية على حنينٍ من طفولة وأمومةٍ ورحيل))، بهذه الكلمات الشفيفة تقدّم الكاتبة والزّميلة الإعلامية نور نديم عمران بمجموعتها القصصية الجديدة (لوعة ما قبل الرّحيل) والتي تسرد أحداثها ومجرياتها، ناقلةً إلينا وجدانيات وانفعالات شخوصٍ يعيشون بيننا، ويقاسموننا الماء والهواء والتّراب.
تبث فينا الأمل والتفاؤل، تداوي جراحات أرواحنا النّازفة هنا وهناك، تطفئ مواقد جمر الغربة والانتظار، ترسم ضحكةً على شفاهٍ تناست صوت الضّحك والفرح وسط أصوات المدافع وأزيز الرّصاص وآهات الأجساد النّازفة والأرواح الواقفة على أهبة الحياة، مختصرةً مسافات الألم والوجع.
تسبك مفرداتها وأحاسيسها في قوالب إنسانية تلامس شغاف القلوب، فتصوغها سبائك قصصية، توصّف حالاتٍ بعضها استثنائية، بأسلوب متقنٍ بعيد عن الحشو الزائد أو الاسترسال في التّفاصيل أو الغرق في التّوصيف، تأتي إلينا بالزّمان والمكان عبر حواراتٍ يفوح منها عبير الرّشاقة والخفّة والدّعابة أحياناً، وتترجم لنا انفعالات أبطال قصصها وإيحاءاتهم تعابير وجوههم وتقاسيمهم، لتبدو لنا تلك القصص أشبه بومضاتٍ نثرية أو شعرية تحلّق بنا في فضاءات الكون الرّحبة.
فها هي تغرق في الأحلام في أولى قصص مجموعتها (لوعة ما قبل الرّحيل) وتجعلنا نجلس بجوارها بينما تحضر فيلم (التيتانيك) ونذوب في تفاصيل الحضور: (عاودني الماضي بقساوته، بحلاوته، بكّل ما فيه، فكان انطلاق (التيتانيك) يحرّك فيَّ أعنف المشاعر وأصدقها.. لم أحاول البتّة تخيل نفسي شخصاً محدداً بل صرت أعيش حالة كلّ شخص في السّفينة.. أتوجّع معه.. أفرح.. أتمثل أحلامه التي أدرك في قرارة نفسي أنها ستغرق)
وبعيداً عن (التيتانيك) خضنا مع عبّود معركته الشّرسة وعشنا معه أجواء الحرب بأدقّ مجرياتها وتفاصيلها، وثبت فينا أمل النّجاة كرمى عيون زوجته وابنتيه الصغيرتين وأسمعتنا أنّات روحه وهي تناجي جسده :
(ارتفع جسده عن الأرض بقوّة، أمسك بندقيته وضمّها إلى صدره وهو يدرك أنّها سبيل عيشه الوحيد وكرامته وعزّته.. لم يعد يرى شيئاً وقد غطّت الدماء والغبار عينيه، شعر بنفسه يسقط في هاويةٍ متدحرجاً على أشواك وأحجار و.. و.. وغاب عن الوعي) كلّ هذه الأحاسيس وسواها اعترت أنفسنا في قصّتها (آه يا بلدي)، مع مفرداتٍ كثيرة قاربت أجواء المعركة والحرب الظّالمة، وطافت بنا في أرجاء الأرض السّورية بعد أن لاحقت كلاً منا (لعنة الحرب).
وبدا حسُّ الدعابة والفكاهة في بعض ومضاتها القصصية فها هي تجعل من شخير الأزواج موسيقى عذبة تطرب آذانهما ولا يمكن الاستمرار بدونها ويفتقدانها في اللّيالي التي يمضيانها وحيدين بعيدين عن بعضهما.
وترسم على محيّانا ابتساماتٍ رقيقةٍ ونحن نصعد الدّرج مع نوار إلى الطّابق السادس لنرى (تلك الشّابة التي يغار القمر من إشراقة وجهها).وعشنا معها صراعات الفقر والثّراء، والقبح والجمال مع (أمومة طفلة) وعرّفتنا على تلك الأنثى علياء التي كتبت على صفحة الهواء أمامها:
( أنا امرأةٌ تزيّنت يداها بذكرى حرقٍ من وعاء ساخن، وجرح صغير من سكّين مطبخ واصطبغتا بحنّةٍ سوداء من حفر الباذنجان..)
(لوعة ما قبل الرحيل) صادرة عن دار أرواد للطّباعة والنشر، تقع في مئة وعشر صفحات من القطع المتوسط
ريم جبيلي