العدد: 9309
11-3-2019
في سابق الزمان وقبل هذا العصر والأوان يا سادة يا كرام، كانت بنت حواء تحارب لأجل كسب حقوقها في مختلف المجالات وصنوفها، وقد أخذ بيدها رجلها لتنخرط بعلوم المدارس وتنجرف لمعارك الحياة، أغدق عليها بالمنطلقات والإطراءات بالكفاءة والمساواة ورفع لها رايات النجاح، وأفسح لها المكان وأوكلها بالمهام والمسؤوليات الجسام، وحملها الحقائب والمراتب وحتى الوزارات و.. لتلهث وتركب السيارات في أسفارها وسفرها، مهّد لها الطريق ووضع إشارات مرور لساعاتها ودلالات لآخر النهار وترك لها مقعده الذي احتكره في السيارة وهي بشطارة انكبت على الأمر بمهارة لتغفل عما في الأمر مرارة من هيمنته الذكورية بتقنيات العصر وتحت عجلة التطور والتحديث أوصل بها تحت وطأة مقود السيارة تسابق رجلها لمناكب العيش والحياة وليس لديها الوقت لنظرة طرفية على المرآة بل لنظرة طرقية تتجاوز بها شرطي المرور خوفاً من التأخير على الأولاد و الزوج المصون الذي جلس في البيت براحة وهدوء فقد حان الغداء ورحلة المساء، ولأنه بات من الطبيعي أن ترى النساء يقدن السيارات في بلادنا وليس بغريب أو الفعل عجيب، بل الغريب أن ترى فتاة لا تعرف القيادة وفي البيت سيارة، لكن كيف قبل رجلها بقيادتها وبكل رحابة صدر بل أجبرها وأقحمها في ذلك فهو بغاية البساطة وعن لسان نسائنا (ليرتاح) فهل لنا أن نغير ما رددناه سابقاٌ (يا شوفير دوس دوس ..الله يبعتلك عروس ..شقرا وبيضا من طرطوس)
«شوفير للبيت وفي أحسن من هيك»
أم كرم قالت: بكل بساطة منذ كنت في الجامعة وقد كنا نسكن في دمشق، كانت ثلاث سيارات تقبع تحت شرفة البيت، وأنا آخذ طلب تكسي في عودتي أو عند قصدي السوق أو أي مشوار مع الصديقات، وفي كل مرة أثير المشاكل وأبكي إلى أن عرض علي أخي الكبير(ليرتاح من النق) تعليمي القيادة شرط أن يكون عند الساعة الرابعة صباحاً وسرعان ما وافقت ولم أترك له أن يحلم بأني سأنام قريرة العين في ذاك اليوم، وطوال الليل كنت قد سهرت، ففي الدقيقة التي وصلت عقارب الساعة فيها الرابعة تماماً كنت قد بدأت بدعوتي له للاستيقاظ، وكانت قد تهالكت قواه وقد خاب ظنه وأمله، وفعلاً أخذني على طريق القصر وبدأت دعستي الأولى على البنزين، لكنه (ليفرمل) بدأ بتغيير الوقت مرة في الساعة الثانية والنصف وأخرى في الخامسة صباحاً لكني لم أدعه يتوقف ولا بإشارة منه إلى أن وصلت الأمان في كل مرة آخذ من البيت السيارة، وعندما تزوجت وذهبت إلى أبو ظبي مع زوجي للعمل تقدمت لأخذ هناك شهادة قيادة وقد نلتها بكل جدارة من الامتحان الأول، لكن زوجي تقدم لأكثر من سبع مرات لينالها، وأذكر رفيقه أيضاَ بعد 12مرة وآخر بعد 20مرة، وتابعت: اليوم (ضاربك بمنية) ليقول وهو جالس على أريكته يشرب المتة: خذي مفتاح السيارة واذهبي لشغلك، خذي الأولاد معك، وأنت راجعة من دوامك (جيبيهم) وما قولك أن تأتي بما يلزمك للطبخ من الخضار وغيرها وحوائج البيت والأولاد (ويا ريت تجيبيلي معك علبتي دخان) يضحك ويرميك بقبلة يغلفها بابتسامة صفراء ويذيلها بتوقيع يضج بالسلامات.
«بدعستها غيرت طريقه عن بيت أهله»
أم نغم، ذات يوم قرر زوجي أن يعلمني القيادة بعد تململي من مشاوير سيارته التي اعتادت التوجه لبيت أهله بدون إشارة وسابق إنذار وكأنها (حمار)، استبدلنا المقاعد ووضعني في مكانه تحت مقود السيارة لننطلق بتدريبات في المدينة الرياضية منذ سنوات عديدة، وفي أحد المرات توقفت فجأة لا أعرف كيف وسألني لماذا؟ فرددت: ألا ترى تلك السيارة التي وقفت في طريقي؟ عندها ضحك وقال: يجب أن أنزل وأمنع المرور من الطريق لأجل (جنابك)، الشوارع مزدحمة بالسيارات شدي على مقودك وثبتي قدمك على دعستك فأنت ماهرة، ومن يومها (أشوفر)، لطالما كنت أفعل كل ما يطلبه مني لأجل أن نذهب في مشوار إلى البرية أو البحر لكنه كان يرد بأنه تعب أو ليس وقته الآن، لهذا تعلمت لأذهب أينما أريد، وفتلة واحدة في الشوارع أو أقصد البحر لبعض الوقت تكفيني لأعود مرتاحة و(رايقة) بقية اليوم، لقد حظيت بحادث قبل بضع سنين، حينها تملكني خوف شديد ولم أكن المسؤولة فيه ظهر فجأة في طريقي وكأنه خيال، رجل صدمته يعاني الضغط وعدم الاتزان ألطشه ويقع أرضاً دون خدش فيه، والحمد لله جاءت سليمة لكن المخالفات التي تنهال علي إلى اليوم ليست قليلة فأنا مشغوفة بالسرعة.
«الحب والنصيب.. بالسواقة»
الشابة هلا، جامعية: أشارت إلى أنها تتعلم السواقة اليوم، ولم تعد القيادة حكراً على الشبان، تضحك في وجهي وتقترب مني لتدس في أذني بعض العبارات عن سبب لجوئها لتعلم السواقة بأن في هذه المدرسة شبان أحوالهم المادية ميسورة وظروفهم عال العال، فلا يأتي أحدهم غير إن كان لديه سيارة وهو دليل على العيش الكريم والبحبوحة.. لندعو لها عسى أن تجد عند أحدهم الحب والنصيب!
«شوفيرة بامتياز.. خصوصي»
نهلة، ربة بيت قالت: أفقت على السيارة في حديقة منزلنا، وهو ما دفعني لأتعلم السواقة كما تعلمت علوم المدارس والجامعة، لكني لم أتوظف فقد منعني زوجي عنها وتركني لأجل البيت والأولاد ولأتمم مكارمي عليهم اشترى لي سيارة وبدأت وظيفتي فيها، أحضر كل ما يلزم البيت والعائلة وحتى زوجي بل بعض الأهل والأخوات يوكلوني بمهام أقضيها لهم عندما أخبرهم أني قادمة لزيارتهم، تتأففين من كل شيء.. لكن المشوار الذي تريدين تناليه على الفور دون إذن أو سؤال، وحتى أنه ليس لدي أية مخالفات، فالشرطي مسامح على الدوام كلما نظر من النافذة وأطلت منها فتاة بلطفها ويمكن أن يتخلل الأمر بعض التوسلات بلا استبسال، ليرضى ويرحل عنها دون لوم أو عتاب، والشيء الذي ينغص في الطرقات هو تقليعات بعض السائقين الرجال وخصوصاً التكسي والسرافيس وكلامهم الذميم، والذي بتنا عليه غير شاكيات حتى أن زوجي في أحد المرات التي أوصلته فيها إلى مكان عمله بسبب عطل مفاجئ في سيارته ولم أكن لأتخلى له عن مقود سيارتي سمعني أسب وأشتم، عندها ضحك وصرح لي بالقول: (اليوم تأكدت بأنك شوفيرة بامتياز) ومع هذا كنت أخاف الأماكن الضيقة في ركنها ليهب شباب الحي وأصحاب المحلات فيه جميعاً لنجدتي والشاطر منهم يقول لي: هاتها لأركنها عنك، لكني اليوم تجاوزت الأمر، فمقود السيارة يكاد يشبه مقود الحياة التي يجب أن نمسك بها جيداً خوفاً لأجل النجاة بعيش كريم وسعيد.
أحمد، مدرب سواقة بعد وظيفته الإدارية في مؤسسة حكومية أشار بأنه يقدم دروساً خصوصية في السواقة وتعجبه سواقة السيدات فهن أفضل من الرجال في قيادة السيارة واحترام القوانين المرورية، ويؤكد بأن مشاكل المرأة أغلبها من سائقي السرافيس والرجال الذين يتلافون طريقها وتابع بقوله:
من النصائح والإرشادات التي يمكن أن نقدمها للفتيات من الأفضل أن تأتي الفتاة على سواقة سيارة بمحرك أوتوماتيكي ففيها توفير بمجهود القيادة لانشغالها بتغيير السرعات بنفسها، عندها تتفرغ لأجل التركيز على الطريق ومراقبة الحركة فيه ومع مرور الوقت تعتاد على الطرقات والازدحام فيها وقواعد السير ومشاكل ناسه ولسان حالهم لتكون معها قيادتها أسهل وأيسر، وجميع ما يعترض طريقها لا يتطلب منها غير الصبر والتروي على المكابح وكبح غضبها بتجاهل المضايقات، ولا تعير انتباهاً لغير لوحة سيارتها وارتفاع حرارتها عن المعدل الطبيعي فلا تتسبب بالكوارث والحوادث.
«من يومها تعبانين»
لم تكن بيرثا تدري أنها ورطت بنات جنسها في أعمال زادت عليها أوزاراً، فقد كانت تجلس بجانب زوجها بكل أناقتها وسعادتها ولها الأمر والوقت، أو في المقعد الخلفي وسائقها الخاص يوصلها إلى المكان الذي تريده وحيث تشاء، وحتى أنه ينتظرها إلى أن تنتهي زيارتها بكل احترام وهدوء، لكن بيرثا التي انتفضت على قيصر زمانها دفعتهن لينتفضن على استعادة ما سرقه الزمن، فلم يكن يكفيها أعمال البيت والوظيفة لتقع في أكبر منها وتستكمل حقوقها أو بريستيجها وتقول ولم تعد ساعات اليوم بكاملها تكفيها لأشغالها: ماذا فعلت بنا بيرثا؟
بيرثا رينجر، أول امرأة في العالم قادت سيارة، وغيرت القوالب التي وضعها الناس لوظائف النساء فقد ارتبط تاريخ صناعة السيارات بأسماء ذكورية من أبرزها المخترع الألماني (كارل بنز) لكن نجاحاته لم تبرز وتتحقق لولا شجاعة زوجته بيرثا والتي كان من الواجب أن يكون اسمها قد رصع بالحجر والمعدن الثمين في عالم السيارات بل على سيارتها، وتعود حكاية بيرثا إلى العام 1871 التي دعمت زوجها ليبتكر سيارة تسير بمحرك ودون الحاجة لخيول تدفعها، ليبصر مشروعه النور عام 1885، لكن خوفه من قيصر ألمانيا الذي حظر ابتكار عربات عكس ما يركبه القيصر العاشق للخيول دفعه لدفن ابتكاره في كراج مغلق لأكثر من عام، إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه بيرثا فتح باب الكراج لتنطلق بحلمها في رحلة امتدت لمسافة 106كيلومتراً بين مدينتي مانهايم وبفورتسهايم ولم تكن لتخلو رحلتها من المشاكل والعوائق فأين تصل المرأة الطموحة اليوم؟ وقد انطلقت بسرعة جنونية في طرقات واسعة، فيها الكثير من المطبات لازدحام المتطلبات في جداول يومياتها والتكرار جعل قيادتها عملاً روتينياً لتعيش حياتها بلا فرامل أو زمور يعلو لمسامع زوجها (يكفي.. الطريق طويل)
هدى علي سلوم