وقـــــال البحــــــر…الصّــــــــمت!

العدد: 9306

6-3-2019

يعتبر الصمت من أشهر وأعرق لغات هذه الدنيا بلاغة، وهو مجموعة كلمات وحروف وتعابير شفافة لا يفهمها إلا جموع الحكماء والفقهاء وأصحاب العقول الراجحة.
يقول الكثيرون إن الصمت صعب طالما أن العقل لا يكف عن الثرثرة، وإذا كان الصمت ضرورياً في بعض الأحيان، فهو مفيد ونافع ويقود إلى السلامة في أكثر الأحيان، أو كما يقول شكسبير: (الباقي هو الصمت)، لأننا لا نملك إلا أن نصمت، ولا يبقى لنا سوى الصمت، فمن يريد الكلام أو من يستطيعه؟
الصمت ملكة من ملكات النفس، فلا يمكن شراؤه أو تنميته كأزهار الحدائق وبساتين الطبيعة، والصمت يعني الصامت نفسه والقادر على الاستماع لفلسفه الصمت وفهمها، فأصوات الصمت تهدر عبر الأودية والجبال والبحار والأنهار، ولكن قليلين هم الذين يستمعون لهذه الأصوات، وهذه الفئة القليلة هي الأقدر على الاقتراب من حقائق الحياة.
عندما نتعلم كيف نصغي للصمت، فإننا نكتشف طاقاته التي لا حدود لها، وفجأة نبدأ استشراف آفاق جديدة في حياتنا، وإذا بالجديد يأتي من تلقاء نفسه، ويتسلل إلى نفوسنا ويحمل إلينا كل براءته وعفويته.
حين نتأمل غابة الصنوبر الخلابة الغارقة في الصمت، نُحس بمتعة تنقلنا إلى عالم آخر، ونستأنس مرة أخرى بمقولة ثانية لشكسبير: (الصمت هو الرسول الأمثل للمتعة)، هذا الشاعر الذي تحدث عن الصمت أكثر من مرة مراراً وتكراراً، فروح الشاعر تُحسن لغة الصمت و ُقدره وتتناغم معه.
إن ممارسة فعل الصمت هو امتياز الأشخاص المتميزين، فالقادة الروحيون يعيشون جزءاً من حياتهم في صحراء الصمت، ويُربون أنفسهم في كنفها، لأن الصمت يفتح أبواباً مغلقة وأسراراً للكون وقصصاً للنفوس وألغازاً في متاهات الحياة.
في محراب الصمت يسمعون الصوت الداخلي الذي يدفعهم إلى الدعوة، كما سمعوا كيف عليهم أن يتساموا عن الصغائر، ويحتملوا مرارة الآلام، ويتخطوا الصعاب، ويتجاوزوا العثرات، فقد نمت قوتهم واشتدت بحزم في داخلهم، ثم انطلقت محلقة إلى فضاء العالم الخارجي.
وفي هذا العصر أيضاً تصبح الكلمة فوضى، والبطولة الحقيقية هي أن نصغي للصمت ونتعلم منه.
من المعلوم أن اليوغا هي فن الصمت، ورياضة الروح والجسد، ولا تتغير بمرور الوقت وهي ليست فقط حركات عضلية، ولكنها نشاط عقلي وذهني وفكري يتطلب توازناً كلياً مع كل الجسد، كونها مزيج من القوة والليونة لإدراك الأشياء غير الاعتيادية، وفلسفة اليوغا هي القدرة على تخطي الذات والانطلاق من أثقال النفس والمحيط، ويعتبر الصمت واختبار الصمت غصناً من دوحة اليوغا وشجرتها المتنامية والمتعددة الأغصان، فشحنات الصمت هي طاقة متجددة تعزز قدراتنا على تجميع ذاتنا وشتات أنفسنا، والانتصار الداخلي على كل القشور الخارجية التي تغلف حياتنا القصيرة الفانية.
وفي الختام لا يسعنا إلا القول: إنّ الروحانية هي مزيج متناغم بين الصمت الخارجي والاحتفال الداخلي، ولهذا فإن موسيقى الصمت الرائعة تعتبر أعذب وأجمل من أي أغنية على الإطلاق.

د بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار