أموية الهوى….

الوحدة: 19- 10- 2020

 

عبثاً أحشر رأسي في محاضرات الأدب في العصر الأموي، ثم أخرجه بلا جدوى، مالي وحرص عبد الملك على السير بخطا معاوية لإضفاء الطابع العربي على دولته؟!

ما شأني وحركات الفتوحات التي أضافت أراض جديدة للدولة الإسلامية؟!

ربما أنا جاهلية… لا.. لا… أنا أعشق الأدب الحديث، ولن أتابع الدراسات العليا إلا في هذا المجال و..

وأظل أتصارع وهذا المقرر كلما نويت الاقتراب من تلك الحقبة الزمنية.

قليلاً من الراحة يا فتاة… رفقاً بنفسك… إنه امتحان فقط ، لكن… أليس معيباً رسوبي في امتحان مادة من السنة الثانية وحملها معي إلى الدورة التكميلية للتخرج؟

يسري الوسن إلى عيني في هذا الخريف الأرجواني الرائع، ويغازلني ليتمكن مني كما تمكن الحب من قيس ولبنى وطرحهما صريعي الهوى، فأسقط…

سقيماً لا يصاب له دواء

أصاب الحب مقتله فناحا

وعذبه الهوى حتى براه

كبري القين بالسفن القداحا

وانهرت فوق أوراقي لساعة ربما أو أكثر ليوقظني بعدها صوت ارتطام أحدهم بشيء وسقوطه على أرضية غرفتي.

نهضت مذعورة لأجد رجلاً ممدداً مثل ملاك بعباءة بيضاء.

يا إلهي من هذا… كيف دخل غرفتي… بل كيف دخل سكن الفتيات الجامعي دون أن يراه أحد؟!

ما الذي يرتديه ليبدو فارساً خرج  للتو من كتاب الحكايات؟

أنا أحلم بلا شك، لقد بدأت أهذي بالفعل.

إنه يتحرك.. ماذا سأفعل لو رأته مشرفة السكن، ستقتلني حتماً، الحمد لله باب غرفتي موصد من الداخل… ربما دخل هذا الرجل من النافذة.

لن يصدقني أحد، سيظن الجميع أني أدخلته بإرادتي.

اقتربت من ذلك الراقد الغائب عن هواجسي كلها، مسحت وجهاً أسرني بمنديل معطر، رششت بعض الماء على وجهه دونما فائدة.

كان محموماً وحرارته مرتفعة بشكل جنوني فوضعت رأسه على وسادتي وبدأت بوضع  الكمادات الباردة على جبينه…

الحمد لله زميلتي  في السكن سافرت لأيام, لن أدع أحد يشعر بوجوده.

سهرت الليل أقرأ في وجهه آيات من السحر وقصائد غزل لم يبدع مثلها ابن أبي ربيعة عمر…

وسرحت بخيالي أفكر: ما الحكمة الإلهية من وجود هذا الشخص في حياتي الآن ، أنا الهاربة من قيودي وسجن ذاتي المتمردة على مشاعري… كيف انحشىرت مع رجل أجهله في غرفة؟

بعد ساعاتٍ  تطفل النور على صباحنا فزاده ألقاً، كانت عيناه تنفتحان على عالمي فجأة ويراني لأول مرة وقد صدمته تلك الفتاة الغريبة عنه، كيف ظهرت فجأة في عالمه.

بدا أكثر تماسكاً مني ولم يتخل عن رصانته، عدل من وضعية جلوسه وكاد يسقط فاقتربت منه أسنده،…. وانطلق صوته بدرجة التمكن والرصانة ذاتها التي ظهرت في وجهه، سألني: من أنت يا أخت العرب،وكيف وصلت معك  هذه الدار؟

ضحكت وقلت: أهلاً بك يا زميل….

إذا أنت طالب أو خريج من كلية الآداب أيضاً.

لم يبدُ أنه فهم كلامي، ولكنه علّق:

هل أحلم…. ما هذا الحلم الغريب؟!

فأردفت: والله يا أخا العرب لا أعلم من الحالم فينا، أنا ليلى… طالبة في كلية الآداب قسم اللغة العربية، لدي مقرر واحد (الأدب في العصر الأموي) وأتخرج  بعد ذلك.

–  تمهلي.. تمهلي.. ما هذه اللهجة التي تنطقين بها… لم اسمعها يوماً عن الأعراب؟

أنت بالفعل زميل في قسمنا…

– أنا شاعر أموي، هربت من حياتي وشعري بعدما تعرضت للظلم واتجهت نحو الشام لأعرض ما كان على  الملك، مخلفاً ورائي حباً وأهلاً بانتظار عودتي منصوراً، لكن كيف لمن حصر الخلافة في ولده، وجعل لها شروطاً تخدم غاياته ومصالحه أن ينصف مظلوماً؟

هذه حال أمراء المؤمنين في كل عصر، لكن بما أن  لديك حبيبة فلم لا تسمعنا ما كتبت يا نابغة عصرك؟

– عن أي نابغة تتحدثين؟ أنا العامري…. ولكن ما شأنك واسمي، لقد سافرت وأعياني التعب وسقطت عن ظهر حصاني..

ووقعتَ في دياري كما تقول أنتَ، وما أجمله من وقوع!

لعله ارتقاء وسمو..

فتابع وقد لمح شغفاً في عيني زاد اضطراب نبضات قلبي:

وها أنا أستيقظ مع فتاة تداويني من عذاباتي دون أن أعلم.

صدمني كلامه وفكرت: هل ترانا هاربين حالمين التقيا في منتصف الطريق إلى الحقيقة؟

وبدأ الشاعر الأموي يروي قصته بقصيدة أنعشت عروبتي وأشعلت لواعج أشواقي لنفسي التي افتقدتها، وعرفنا أنا تائهين التقيا لغاية ما..

حاولت مراراً فتح باب غرفتي لأخرج من هذا الحلم قبل أن أغوص في بحاره دونما عودة، لكن الباب كان عالقاً.

نظرت إلى نافذتي التي انفتحت على جنائن عدن لم أرها يوماً، أو ربما جزيرة من السحر، فمفردات هذه اللوحة الإلهية كانت كثيرة، وألوانها تبهر روحاً لم تعرف يوماً الرماد.

دعاني فارسي للمضي معه، فكاد قلبي  يتوقف… أنا محتاجة هذا الحب، روحي تشتاقه، إنه يخرجني من تابوت رتابةٍ أمقتها وماديات تخنقني إلى عوالم الروح التي تأسرني، كما في الغزل العذري حيث يفنى الجسد وترتقي الروحانيات، حيث لا يتجسد الحب رجلاً وامرأة ، بل يغدو لقاء نبض روح بنبض روح.

لم أقو على الرفض، فناقوس القلب قد دق بحبه، لذا مضيت معه إلى عالمه.

لا أعرف كيف تلون ثوبي باللون الوردي فجأة، وطال ليل شَعري، وانطلق لساني بعربية فصيحة، صرت أميرة أموية لفارسي… عاشقة عامرية..

لا أعلم لكني بالفعل انفصلت عن العصر الحديث بلا شك.

ووجدته أميري وشاعري، وغرقت معه في كتبه وأدبه، بعدما وقعت في غرام ثقافته ورقيه، وعشقت صوته وكلامه الفصيح.

كنت أخوض في هذا الحب حتى الثمالة، نعم إنها نشوة الخمر التي لم أتذوقها إلا من بحور شعره.

ولأنه لا يمكن لأي شيء أن يظل مثالياً تماماً، كان الحزن رفيق حبي خشيةَ صحوةٍ تبدد حلمي، وددت النوم أبداً لأظل متصلة به.

همست في أذن معشوقي: ليت هذا يستمر، ولكنه لن يفعل ،نحن من عالمين مختلفين.

رد بصوت أدمنته حتى أدماني:

ولكن تجمعنا روح واحدة تنبض بكل الجمال والحب والقيم ،إنه تعالق بين روحينا لن ننفصل عنه يوماً.

– ولكن يا شاعري أنت ويا أميري، سأنهض حتماً من غفوتي، ولن اكون معك ولن تظل قربي.

فآه  أيها المسافر في فضاء روحي كم أرهقني سفرك….

أيها العاشق لروحي أضناني عشقي لروحك وعشقك أدماني..

يامن تشظى ياسمينك في دمي…

كيف السبيل ﻷلملم نزفك المحموم من بحور الزيزفون….

وعيناك في كفي… وفي أنفاسي عطرك … وقلبك في الوريد؟!

كيف أيها الحب… أيتها الروح… كيف ألملمك؟!

مرت نظراته الدافئة على دمعاتي وتشرّبتها:

ابحثي عني في كتبك في أدبك: الحديث منه والقديم، وستعلمين أن الأدب كالحب واحدٌ لا يتجزأ.

اقرئيني في كل قصائد العشق، واعلمي أن روحي ستكون معك دوماً… سأظل ملاكك الحارس:

يهواك ماعشت الفؤاد فإن أمت

يتبع صداي صداك بين الأقبر

اقترب أميري يلملم دمعاتي ويشم عطر ألمها، فاستيقظت على صوت المنبه وأنا أتمتم  ململمةً دموعاً فاضت من روحي:

كنت أدرك أنك أعظم  من أن تكون حقيقة، ولكني أعلم أيضاً ًأنك أجمل ما يمكن أن يحدث لي.

عدت لمحاضراتي أنغرس في تربتها بعدما تجذّر الأدب الأموي داخلي، وشرعت أقرأ بشغف باحثة عن شاعر لن   تطال وصاله إلا على صفحاتها … أو ربما.. ربما في جزيرة أحلام انحصرت ملكيتها باسميهما.

نور نديم عمران

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار