الوحدة: 5- 10- 2020
لهم في كل صباح يوم حياة جديدة، وقد تعددت سنوات العمر والأيام لتتعدى الثمانين بأربع وخمس لكل منهما، وهما يتكئان على بعضهما ويسندان بعضهما بلا عكاز خشبي أو معدني وحتى بلا حاجة الأولاد، فالصحة عال العال كما يقول أبو جابر من قرية التربة.
كل صباح أراهما قد أقلعا بمحرك الجرار الزراعي الذي خيمه (بشادر) لأجل حماية أم جابر من وهج الشمس أو برد وأمطار الشتاء، ولا يتغيبان يوماً، وتراها قد أحاطته بيدها لتمسك جيداً ولا تتأرجح في الهواء، وقد أحاطتها صناديق من البلاستيك والفلين، فهما يذهبان يومياً إلى أرضه الزراعية التي يرفض أولاده زيارتها أو العمل فيه، مما يضطرهما وهما سعيدان أن يعتنيا بها وبزرعها ما دامت الصحة تتوجهما ويرجع ذلك بقوله إن زوجته الطيبة الوفية لا تطعمه من السوق وكل شيء لديها هو بركة ومن صنع يديها التي تمدهما بالخير، ولم يذهبا يوماً إلى الطبيب ولم يحتاجا لولدهما الكبير الذي ربياه ليكون طبيباً وتركهما ليكون في ألمانيا منذ 17 عاماً، ولديهما غيره الدكتور في الجامعة والبنت استحوذت على الشهادة الجامعية في الأدب العربي ومتزوجة تسكن في دمشق مع زوجها الطبيب، ليكون لكل منهم حياته وواجباته ومسؤولياته بعيداً عنهما وقد نسوا الأرض وأشجارها المثمرة ومحاصيلها من الخضار التي تربوا منها وأنتجت منهم شباباً وعائلات، وإذا ما أتيت على ذكرها أمامهم يتهربون بحجة كثرة أعمالهم التي يبنون عليها مستقبلهم ويوصوني بالجلوس في البيت والتقاعد من العمل الزراعي مراعاة لصحتي وطلب الراحة للأمان وعدم الوقوع بشر الكسور وهم سيبعثون لي بسخاء كل ما أطلبه وأتمناه وما يمكنه إعالتي وأمهما ويمكنني من جلب خادمة تقوم على خدمتنا وراحتنا وفيها الضمان ورفع جهد الخوف عنهم والاطمئنان علينا، وأنا أرفض بشدة أن أجلس في البيت (رجل كرسي) لا منفعة مني ولا ضرر ولا يمكنني أن أترك الأرض تبور وتخور تخومها ما دام في القلب نبض وحياة، وزوجتي على نفس النهج والمنوال لا تستكين ولا تترك شيئاً على غيرها من الأعمال بل لا تحتاج (لخدم وحشم ) وكلها حياة،
فما زالت ترعى بنفسها أمور البيت ولا ترضى أن تجالس نساء القرية وتجاريهن الثرثرات، بل تستعجلني الذهاب للأرض بعد أن عملت (زوادتها) ووضعتها بسلة القصب مع الخبز .
يضحك ويهز برأسه لينطق بقوله: يقولون عنا عجوزين والأولاد يسأمون من الأمر وينهرهم الكلام ويقهرهم ويتوترون ليرفعوا لنا أياديهم متوسلين ويسألوننا أن نترك العمل ونعتني بصحتنا، ولا يعلمون أن في عملنا بالأرض صحتنا وراحة بالنا فهي تهبنا كل ذلك دون حساب، فالعمل في الحقل والأرض وقطف خيراتها هو (دينامو) الروح ومحركها والذي يجعلنا شباباً إلى اليوم ولا نشتكي من أوجاع ولا آلام كمثلنا من الكبار الذين تسلموا نصيحة الأبناء وعملوا فيها وتكاسلوا ومرضوا.
لك أن تضحكي وتسخري من كلامي يا بنتي، لكني أشدد على كلامي هذا وأتحدى كل من يقول العكس، وأبناء هذا الجيل تلهيهم التكنولوجيا ولا تستهويهم أعمال الحقول بل لا ترضيهم غير المكاتب والبدلات ومن حولهم ما أبدعته التقنيات وأفرزه هذا العصر والأوان من مستجدات يمكن أن تكون صالحة اليوم ويقتنيها لأجل راحته والتوفير في وقته مع أنه يقول أنه مشغول طوال الوقت واليوم وليس لديه فرصة للتنفس، وهو ما يمنع عنه الحياة والجمال الذي أحاطنا به الله، وقد تكاثرت من حوله النفايات لتكون مكباتها في الأرض التي زرعها يوماً وأصبحت بلا سواقٍ للحياة فلا نجاة له مهما تعددت الوسائل والمعالجات والمنافذ لصد موجاتها فقد ازداد الأمر سوءاً، مع أن الحل بسيط وهو العودة للأرض والمحافظة عليها ولن يكون مرجعاً للأولاد غير الأرض والحقول التي هي قيد الانتظار، ونحن نرعاها ونحميها لهم وسيعودون يوماً مهما دارت بهم الأيام وجالوا فيها برفاهية ومال وصالوا بالطول والعرض.. أجل سيعودون.
هدى سلوم