الوحدة: 5- 10- 2020
يقع تل تويني شرق مدينة جبلة على بعد 25 كم من أوغاريت العاصمة الكنعانية الشهيرة (رأس شمرا) يقوم الموقع وسط سهل خصب على بعد حوالي 2000 م من شاطئ البحر وكان على علاقة مباشرة مع مدينة جبلة.
وقال مدير الآثار والمتاحف في اللاذقية الدكتور إبراهيم خير بك بدأت بعثة أثرية سورية بلجيكية مشتركة منذ عام 1999 بالأعمال الأثرية التنقيبية لمعرفة تاريخ التطور الحضاري لهذا الموقع، وهدفت الأعمال المنفذة في الحقول المختلفة إلى الكشف عن السويات المختلفة التي تعود إلى الفترات الممتدة من الألف الثالثة قبل الميلاد وحتى العصر البيزنطي وذلك باستخدام التقنيات الحديثة وقد تم الكشف عن العديد من السويات المتلاحقة والتي أعطتنا العديد من المعلومات عن طبيعة التطور الحضاري والتقني والاقتصادي خلال العديد من الحقب والعصور، وتم الكشف خلال المواسم الممتدة من عام 1999 وحتى عام 2009 عن العديد من الأحياء السكنية والمنشآت التي تعود بشكل أساسي إلى عصري البرونز والحديد والتي أعطتنا الكثير من المواد واللقى، يحيط بتل تويني العديد من المجاري المائية التي تصب في البحر المتوسط منها نهرا الرميلة والفوّار، ويأخذ التل مسقطاً إجاصياً رأسه يقع في الجهة الغربية وتبلغ أبعاده حوالي 400 م في حين تبلغ مساحته 11,6 هكتاراً وهو يرتفع عن السهل المحيط به من 15 حتى 20 متراً.
أعمال التنقيب في العديد من الأسبار أدت إلى الكشف عن سويات سكنية تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد وكانت الأسبار العميقة قد مكّنت من الكشف عن السويات المتلاحقة والتي تعود إلى عصر البرونز القديم الثالث والرابع (2000 -2500) قبل الميلاد ولم تنته هذه الأعمال حتى الموسم الأخير وبالتالي لم يتم الكشف عن بدايات الاستيطان في هذا الموقع ويعتقد أنها تعود للعصور الحجرية الحديثة (الألف السادسة قبل الميلاد) وذلك استناداً إلى بعض اللقى التي وجدت في المنطقة المحيطة بالتل والواقعة في سهل جبلة كما تم الكشف عن مدفنين ضخمين على علاقة مباشرة مع بقايا سكنية أرخت في عصر البرونز الوسط (النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد).
وكانت التقاليد الجنائزية في هذه الفترة تقوم على دفن الموتى تحت المساكن وقد تم التأكد من هذا التقليد من خلال الكشف الاستثنائي لإحدى هذه المدافن الجماعية والمؤرخة في عصر البرونز الوسيط الثاني (حوالي 1700 ق. م) وجدت داخل هذا المدفن بقايا 48 هيكلاً عظمياً لأناس بأعمار مختلفة، أمام الأثاث الجنائزي فقد تألف من أكثر من 160 إناءً فخارياً، حفظت بشكل كامل بالإضافة إلى العديد من الدبابيس البرونزية ودمية للربّة عشتار مصنوعة من الفريت، كما تم اكتشاف عقد قلادة وختم أسطواني وتتألف القلادة من عدة حبّات من الخرز الفينيقي، ونوع من الحجر يتوسطها ختم من حجر الكواربز، كما تم العثور على ختم أسطواني يحوي صوراً متعددة، منها شخص على شكل حيوان يصارع حصاناً مجنحاً يمثل مشهداً ميثولوجياً كان متعارفاً عليه كرمز للقوة ويعود لعصر الحديد الثاني (القرن الثامن قبل الميلاد) وعثر على وزنة بشكل أسد وهي مصنوعة من البرونز وتعود لعصر البرونز الحديث وأيضاً تم العثور على نقد من الفضة على سطح الموقع بالحقل حيث وجدت على الوجه الأول للنقد صورة أسد محاط بكتابة عبارة عن كلمة أوتريخت والوجه الثاني عليه صورة فارس في الجزء العلوي منه وفي السفلي أسد بحجم أصغر والمشهد محاط بكتابة ويؤرخ هذا النقد لعام 1962 م ومصدر هذه القطعة من منطقة هولندا – بلجيكا والتي كانت في ذلك الوقت مقاطعة واحدة، ويوجد احتمالات لهذه القطعة النقدية في الموقع الأول يقول بأن هذا النقد يعود لتاجر في المقاطعة المذكورة جاء لشراء القطن في هذه المنطقة والثاني يقول بوجود شركة انكليزية كان اسمها المشرق ولها فروع في حلب وأنطاكيا استخدمت هذه النقود لشراء منتجات شرقية بمختلف أنواعها وتصديرها إلى أوروبا.
كما عثر على ختمين أسطوانيين من الغرانيت أحد الختمين يحمل صورة لشخصين متقابلين بينهما صولجان وخلفهما مشهد مؤلف من غزالين متقابلين بينهما عنصر زخرفي هندسي، وأما الختم الثاني فهو عبارة عن مشهد لشخص أمامه شجرة وخلفه حيوان محوّر ومحاط بعناصر زخرفية هندسية ونباتية ويعود تاريخ هذين الختمين لعصر البرونز الحديث، أما المدفن الآخر الذي يعود للفترة نفسها فقد تم بقايا عظمية لسيدة مع طفلها وبالمقابل كشف في الحقل الثاني عن مدفن جماعي يضم هيكلين عظميين كما وجد أثاث جنائزي تألف بشكل أساسي من بلطة متطاولة من البرونز وإبريق كبير ثنائي اللون، وجد ما يشابهها على طول الساحل السوري – اللبناني في مدن مثل أوغاريت وسوكاس وعمريت وجبيل، وخلال عصر البرونز الحديث (النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد) لعبت مدينة جبلة (جبالاً) دوراً مهماً وأساسياً في هذه المنطقة وأعطتنا الرقم المسمارية المكتشفة في مدينة أوغاريت العديد من الوثائق التاريخية والاقتصادية المهمة اعتباراً من عام 1350 ق. م وحتى سقوطها حوالي 1200 قبل الميلاد جراء هجمات شعوب البحر وكان لمدينة جبلة نفوذ هام وأساسي فالنص الأكادي الذي يعود لفترة حكم الملك الأوغاريتي نكمبيا يتحدث عن اتفاق بينه وبين عيدانتي ملك سيانو بهدف وضع الحدود الجنوبية للملكة الأوغاريتية ولقد تحدث هذا النص عن العديد من المدن والقرى التي كانت تتبع لمملكتي أوغاريت وسيانو وكانت مدينة جبالا تحت السيطرة الأوغاريتية وأدى سقوط مدينة أوغاريت إلى الانهيار الكامل للمملكة الأوغاريتية وبالتالي زوال النظام السياسي والاقتصادي في العديد من المدن والمواقع ومنها مدينة جبالا وموقع تل التويني ونشير في هذا الصدد بأن تل التويني كان خلال عصر البرونز على علاقة مباشرة مع البحر وذلك من خلال الخليج الداخلي الذي يرتبط بعمق الواجهة البحرية للشاطئ الساحلي وهو عبارة عن الخليج المنفتح بصورة مباشرة باتجاه الغرب، وقد مكنّت الدراسات الجيومورنولوجية من تأكيد العديد من المعطيات التي تشير بشكل واضح لوجود مرفأ كان على علاقة مع الموقع كما هو الحال في مدينة جبلة، وقامت خلال الألف الأولى قبل الميلاد في هذه المنطقة سهل جبلة العديد من المدن والمواقع الرئيسية نذكر منها تلال التويني وسوكاس وسيانو وكانت عبارة عن مدن ومناطق استيطانية فينيقية.
وقد كشف في الحقل /ب/ عن مجمع ديني يعود للقرنين السادس والخامس قبل الميلاد تألف من بناء ضخم يتمحور حول منطقة رئيسية مقدسة وعدد من الباحات الخارجية والداخلية ويأخذ الحيز الأكثر قدسية شكل مستطيل يضم غرفتين متتاليتين وظيفتهما الدينية محددة بصورة دقيقة وبالمقابل كشف في الحقل 12 عن عدد من المساكن التي كانت تنتمي إلى أحياء منظمة تندمج بصورة كاملة مع التنظيم المعماري للموقع، ولقد ضمّت أرضيات هذه المساكن العديد من البقايا الأثرية نذكر منها: أحواض عصر الزيتون ومنشآت لعدد من الحرف اليدوية والزراعية البسيطة والتي كانت في غالبيتها مؤرخة لعصر الحديد الثاني.
هذا وتشير النقود المكتشفة من العصور الكلاسيكية في أماكن من الساحل السوري إلى أن مدينة جبالا كانت تقوم بسك النقود خلال القرن الثالث قبل الميلاد وذلك من خلال أنماط مشابهة مع تلك التي كانت تصدرها جزيرة أرواد باستثناء الإشارة الواضحة لمدينة جبالا بحرفي ج – ب (حاما – بيتا)
أصبحت مدينة جبلة اعتباراً من القرن الأول قبل الميلاد مدينة مستقلة وبالتالي بدأت تتطور بشكل واضح بينما هجر تل التويني بشكل كامل باستثناء بعض النشاطات الزراعية لكي يعود له النشاط في العصر البيزنطي وبشكل بسيط من خلال بعض المزارع والمنشآت الصناعية التي كانت تنتشر بشكل منقطع على سطح التل نذكر منها ما كشف في الحقل /ب/ وهي عبارة عن مزرعة يتم فيها تصنيع النبيذ بالإضافة إلى القيام بالعديد من النشاطات الزراعية ونوعية الماشية.
وقد ذكرت الحوليات الآشورية (858 و 844 قبل الميلاد) العديد من الحملات التي تمت في المنطقة وقد أدى بعضها إلى تخريف العديد من المدن والمناطق منها تل سوكاس خلال حملة سلمنصر الثالث كذلك يمكن ذكر حملة تكلا بتلاصر الثالث التي وصلت إلى ساحل البحر المتوسط وكانت في ذلك الزمن مدينة سيانو وقد ضمت التحالف الآرامي تحت أمرة مدينة حماة والتي سقطت بشكل نهائي في حوالي 720 قبل الميلاد جراء الاجتياح الآشوري ونذكر الوثائق التي تعود للقرن الثالث قبل الميلاد أب الفرعون المصري أبريس 588 قبل الميلاد والملك البابلي نابويند 550 قبل الميلاد قد قاما بحملة اعتقالات في هذه المنطقة من خلال الغزوات العسكرية والتي كان لها العديد من التأثيرات السياسية والاقتصادية في منطقة سهل جبلة وعلى الخصوص في مواقع ومدن مثل جبلة وتل سوكاس وتل سيانو التي لعبت أدواراً أساسية في التبادلات التجارية.
خديجة معلا