الوحدة 22-9-2020
في كتابه: (تراث وحداثة) تناول الكاتب مصطفى سليمان قضايا هامة من التراثين العربي والإنساني قديماً وحديثاً مشيراً في أحد فصول كتابه المذكور إلى قضية الشعر وارتباطه بالفنون التشكيلية واصفاً إياه بملك الفنون التشكيلية. حيث قدّم التعريفات الفنية التي تمزج بين الشعر والفنون التشكيلية والنظريات المتنوعة لعددٍ من النقاط تتضمن نقداً هاماً لطبيعة العلاقة بينهما حيث أشار الكاتب في البداية إلى كتاب نقدي هام بعنوان (لاوكون) للناقد الألماني الكبير ( لسنغ) يربط المقارنات والاستنباطات الدقيقة بين قوة الوصف الشعري والفن التشكيلي حيث أوضح نظرية نقدية هامة في هذا المجال وهي أن للفن التشكيلي لمحة في المكان .أما الفن الشعري فله لمحات في الزمن بمعنى أن المصور أو النحات لا يستطيع أن يلتقط بفنه غير وضع واحد لموضوعه، أي لمحة واحدة في المكان، أما الشاعر فيستطيع أن يصور بفنه عدة أوضاع متلاحقة للموصوف، أي عدة لمحات في الزمن.
هذا قد أورد المؤلف أيضاً مثالاً تطبيقياً على هذه النظرية في (لوحة) امرئ القيس في وصف الحصان شعرياً ورسمه أو نحته حيث قال: لو أردنا مثالاً على ذلك لوجدنا أن الرسام أو النحّات لا يستطيع أن يصور أو ينحت الحصان إلا في وضع واحد أما الشاعر فإنّه قادر بصوره الشعرية على أن يقدم للحصان عدة أوضاع في صورة شعرية واحدة واللوحة الشعرية الفذة في تصوير الحصان على هذا الحال نجدها عند أحد أمراء الشعر الوصفي في شعرنا الجاهلي ألا وهو امرؤ القيس في المعلقة بلوحته الشعرية:
مكرّ مفر، مقبل مدبر معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل
وسر الإعجاز في هذا النحت الشعري الذي يلتقط لمحات في الزمن هو الكلمة (معاً) فلو لم يذكرها امرؤ القيس لكان وصفه وصفاً عادياً، فالحصان سريع الكر والفر، والإقبال والإدبار، إنّه وصف عادي لا براعة فنية فيه لكن كلمة (معاً) جمعت الحركة ونقيضها في لمحات زمنية مختلفة ويمكن القول: إن امرأ القيس رسم في بيت شعر لوحة يعجز عن رسمها أي رسام..
وقد أورد المؤلف سليمان تعريفات فنية تمزج بين الشعر والفنون التشكيلية منها الجملة الشهيرة للشاعر اليوناني سيمونيدس: الرسم شعر صامت والشعر تصوير ناطق وفي كتابه الشهير (فن الشعر) أهمل أرسطو الحديث عن الشعر الغنائي لأنّه وجده أقرب إلى فن الموسيقا منه إلى عالم الأدب وتابع المؤلف حديثه قائلاً: تعد نظرية المحاكاة أساس الفنون عند أرسطو ومع ذلك يبدو أنه لم يخرج الشعر الغنائي عن مجال المحاكاة بدليل أن شعراء الإغريق ومفكريه السابقين عليه كانوا يرون أن الشعر ضرب من المحاكاة والعبارة السابقة لسيمونيدس تؤيد هذا الرأي فمن الواضح أن الشعر عنده شبيه بالرسم ومن البديهي أن الرسم يسهل إرجاعه إلى المحاكاة… وقد يُقال إن لوحة الشعر أجزاء مبعثرة، يتم تشكيل صورتها الفنية في الخيال، عن طريق التتابع أو التعاقب بعكس الرسم مثلاً الذي يقدم الشكل دفعة واحدة وهنا أورد المؤلف سليمان رأياً للفيلسوف الألماني هيغل قائلاً: إن مختلف التفاصيل التي يعتمدها الشعر ليجعل الشكل العيني لأحد المضامين في متناول الإدراك لا تؤلف كلية واحدة متماثلة، كما في الرسم، حيث تثب جميع التفاصيل إلى العين دفعة واحدة بل تعرض نفسها للإدراك تباعاً، على اعتبار أن التمثيل لا يستطيع إظهار مختلف العناصر التي يحتويها إلّا بالتعاقب وأضاف المؤلف: هذه القدرة التعبيرية التصويرية للشعر في جمع الأجزاء المتعاقبة في لوحة واحدة بحسب رأي هيغل، والقدرة على التقاط لمحات مختلفة في الزمن في صورة شعرية كلية واحدة، بحسب رأي لسنغ نراها في شعرنا العربي عند شاعر فنان ومصور بارع هو (ابن الرومي) والفضل في تطبيق نظرية لسنغ على شعر ابن الرومي الوصفي يعود إلى المرحوم إبراهيم المازني في كتابه حصاد الهشيم ،ففي وصفه للخباز يدحو رقاقة العجين، تتجلى هذه القدرة الفنية في الشعر كفن مستقل، وفي ابن الرومي كشاعر مصور ماهر:
الشطر الأول
إن أنسى لا أنسى خبازاً مررت به
ما بين رؤيتها في كفه كرة
إلّا بمقدار ما تنزاح دائرة
الشطر الثاني
يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
في لجة الماء يلقى فيه بالحجر
ولو تأملنا وصفه للأحدب لتعرفنا على صورة شعرية نحتية مجسمة تدب فيها الحيوية والإحساس:
قصرت أخادعه وطال قذاله
فكأنه متربص أن يصفعا
وختم المؤلف حديثه عن هذا الموضوع بالإشارة إلى قول العقاد عن هذا التصوير الشعري الرائع إذ قال:
هي براعة لا نظير لها في الشكل والحركة، ولا في تضمينها هيئة السخر التي عمل فيها الشاعر عمله المركب ليتم فيها نصيب العين والضحك والخيال ولا يعوزها الإتقان الحسي ولا التأمل الطويل في ضم أجزاء الصورة بعضها إلى بعض… إنه شعر نحتي، أو نحت شعري.
ندى كمال سلوم