قراءة ثقافيّة جماليّة في رواية (حليب سوفييتي)

الوحدة: 23-8-2020

 

 

في العنوان: تتنازع العنوان باعتباره العتبة النصيّة الأولى التي تقف عليها القراءة قبل ولوجها فضاءات النصّ، العنوان الذي شكّل نصّاً لغويّاً ثقافيّاً مكثّفاً لمجمل المتن، في رواية (حليب سوفييتي) طباعة دار (ممدوح عدوان) دمشق 2019م  للكاتبة  اللاتفية نورا أكستينا، ترجمة السوريّة ضحوك رقيّة، قوّتان: قوّة الدلالة الحرفيّة المباشرة لمعنى كلمة (حليب) وقوّة الدلالة الرّمزيّة التي تُعلي من قيمة المفردة اللّغويّة إلى مصافي المصطلح الثقافيّ، خاصّة بعد تحديد الخبر للمبتدأ، ليغدو حليباً سوفيتيّاً فكريّاً معمّماً كوجبةَ يوميّة، هنا نجد المباشر يُخلي مكانه مكرهَاً، للرّمزي المبحر بدلالته الثّقافيّة إلى الحدّ الأقصى، صحيح أنّ  الطفلة (الحفيدة بطلة السّرد لم تذقْ طعم الحليب الطّبيعي من صدر الأمّ الهاربة، رفضاً لأمومة مهدورة لم تكن تعيها أو تحبّذها، مبرّرة ذلك بقولها: (اختفيتُ عدّة أيّام حتى لا أضطّر لإرضاع طفلتي، كان حليباً مرّاً: حليب عدم الفهم، أو حليب الهلاك، فحميت طفلتي منه، حتى لا ترضع حقارتي معه)، ما شكّل في لا وعي الطفلة رفضاً تلقائيّاً له بعد أن كبرتْ، إلّا أنّها أُشبِعَتْ حليباً ثقافيّاً قسريّاً، هان أمامه فقدانها لشهيّة الحليب الطبيعي، شأنها شأن كلّ الأجيال التي تربّتْ في ظلّ الفكر الاشتراكي الشّمولي.

ضمائر السّرد، خلط الأزمنة، الشاعريّة: القيمة الأساسيّة للرواية أنّها مسرودة بضمير المؤّنث وقد توزّعته ضمائر أجيال ثلاثة، كان  ضمير الحفيدة (ضمير الكاتبة أيضاً، أقواها حضوراً، وهي تمثّل الجيل الأنثوي الثالث المولود عام 1969م، جيل التفاؤل، الذي أتقنَ أسلوب المهادنة للثقافة السائدة، تقول الحفيدة: (أطعتُ المعلّم، وكوفِئتُ بشارة رابطة الشباب الشيوعية وبطاقة العضويّة فيها)، مع احتفاظها بوعي مستتر مغاير، كوّنته من خلال شذرات متناثرة، التقطها ذاكرتها من أحاديث أمها، تقول: (حكتْ لي والدتي قصصاً غريبة… كانت هناك لاتفيا فقط، من دون القمل الروسي الذي لم يكتفِ بالعيش في وطنه بل زحف علينا جميعاً)، وحين تسأل أمها: لماذا أكل هامستر أطفاله؟ تجيبها وهي ترتجف كلّها وقلبها ينبض بشدّة: ربّما أنقذهم من الحبس في القفص؟  فتتساءل الطفلة في سرّها: كيف يمكن للمرء أن يأكل أطفاله، ثمّ يموت توقاً للحريّة؟ كذلك من خلال الومضات التحّذيريّة التي كان جدّاها  يبثّاها في عالمها الطّفولي المعتم الأجوبة، ومن خلال الأفكار المختلفة عن السّائد لأستاذ  المدرسة (بلمز) وكثيراً ما كانت الساردة تلجأ أثناء ردمها لثغرات السّرد، إلى إعادة تشكيله عبر التّخييل، كتخيّلها لحدث لقاء والدتها بوالدها في الحفل الرّاقص الذي أثمر فيما بعد عن ولادتها كطفلة خطيئة، ثمّ ليختفي الأب، ويذوب في الهامش، يتوازى مع ضمير الساردة الحفيدة، ضمير آخر، هو ضمير الجيل الثّاني وتمثّله الأمّ، لطّبيبة المولودة عام 1944م، التي رضعتْ حليب الاختلاف الثّقافي مبكراً، فقرأت باسترناك، سارتر وغيرهم، مستعيدة بذاكرتها الطفولية كيفيّة اعتقال والدها ونفيه عن الوطن الأم  (لاتفيا) ومن ثمّ عودته مشتّت الرّوح ليموت منسيّاً في غرفته، كذلك لم تخفِ موقفها من الذّكر المحمي من السلطة القائمة باعتباره بطلاً سوفييتيّاً، وهو السكّير الذي يضرب زوجته كلّما حلا له الأمر، وها هي تدين موقف الزوجة المستلبة، قائلةً : كلّما ضربَها أحبّته أكثر، لذلك قرّرتْ أن تنتقم لها منه، كمن ينتقم من تاريخ ذكوريٍّ شامل، ما كلّفها خسارة مستقبلها المهني رغم براعتها في مهنة الطبّ، بنفيها إلى الأرياف، تقول: لينينغراد بانتظاري مع اكتشافاتها العلميّة الجديدة وروحها الحرّة الممنوعة على (ريغا) المقموعة، كذلك لم تكن لتخفي قناعاتها الدينيّة المتناقضة في الوقت الذي أفرغتْ فيه الكنائس من روّادها، تقول: أدار لينين ظهره للكاتدرائيّة الأرثوذكسيّة التي حوّلت إلى قبّة فلكيّة، كما لو أنّه لا يعرف شيئاً عن البحيرة البعيدة عن سيبريا، حيث أُغرِقَ المئات من القساوسة الأرثوذكس بناء على أوامره، ثمّ ينبق الضمير الأنثوي الخافت للجيل الأوّل (الجدّة) خجولاً، نتلمّس آثاره من خلال عبارة تسقطُ هنا، وقول يرتجف هناك، تقول: على من يقع اللّوم؟ لقد كبرتْ محاطة بالحبّ..  رضعتْ حليب الأمّ حتى الثالثة من عمرها، كانت طفلة قويّة وصحيّة، ما الذي جرى لها؟ كذلك نجد ضمائر أنثويّة ثانويّة ( جيسي، وسيرافيما) مهمّتها الوظيفيّة، هي إكمال زهو الضّمير المؤنث المسيطر على العمل السّردي ككل، تقول جيسي التي اعتنتْ بالطبيبة لمدّة طويلة، على لسان الحفيدة: أمسكتْ جيسي رأسها وقالت: سنكون أحراراً حقّاً، لماذا لم تستمعْ إلى كلماتي؟ وأخيراً يطلّ الضّمير الذّكوريّ من الحديقة الخلفيّة للنسق الثّقافي المهيمن، الذي يتوارى السّرد الأنثويّ بين أعشابه، ليخلط الأوراق ويشتّتها،  ممثّلاً بالمخبرين والمحقّقين الأمنييّن الدائمين، والغريب هنا لجوء الكاتبة، ربّما، نكاية بالثقافة الذكوريّة إلى حيلة تهميش الضمائر الذّكوريّة  في الرواية، مثل (الجدّ، الأب، الخال) وكم كانت لعبة تداخل الضّمائر الذّكيّة مربكة للقارئ في القسم الأوّل من الرواية، إذ لم يعد يعرف من هو الضّمير المتكلّم، أهي الأمّ أو الحفيدة أو الراوي العليم أو المؤلّف ذاته المتخفّي بين السّطور.

في لعبة القصّ الماتعة وظّفت الكاتبة حواراتها جيّداً، بما يخدم مضمون السّياق السّردي  من (ديالوجات خارجيّة) إلى (مونولوجات داخليّة) كسرت بكثافة زمنها السيكولوجي كرونولوجيّة الزمن الخيطيّة المألوفة في القصّ التّقليدي، واستثمرتْ تقنيّة الخطف خلفاً السّينمائيّة لتخلط الأزمنة (الماضي، الحاضر، المستقبل) مشكّلةً زمنها السرديّ الخاصّ بامتياز، كما اتّضح خطّان سرديّان متوازيان، أججّا حركة الصّراع في الرواية، خطّ الأمّ (الطّبيبة)، المغتربة  دوماً عن واقعها، ذات المزاج السوداوي والنّكوص الدائم إلى عتمة الذّات، وخطّ الحفيدة ذات الحضور الأبيض التفاؤلي بسلوكها الحيوي التفاعلي المندفع إلى الأمام، تقول: شعرتُ أنّني أكبرُ من الداخل، فأنا مسؤولة عن أمّي ولا أحد يعرف جوانبها المضيئة والمظلمة أكثر منّي، وقد أضفتْ الشاعريّة ظلالها الوارفة على العمل، من متعة وتشويق حفّزا القارئ  على المتابعة بلا إبطاء، تقول السّاردة: ها هو البحر الرائع أخيراً، واسع بلا حدود يتلألأ في شمس الصّباح، لا يمكن رؤية غيمة واحدة على مدّ النّظر، وقفنا مفتونين على الشّاطئ، وثمّة تيّار سخرية خفيّ نجح في تلطيف مرارة المعيش، تقول الساردة الحفيدة ساخرة من أبديّة الفكر الشمولي: مات بريجنيف في العاشر من تشرين الثاني، ظنّ الجميع أنّه خالد لا يموت.

أوس أحمد أسعد

تصفح المزيد..
آخر الأخبار