أنا لست بخير..

الوحدة 13-8-2020

 

أفكر يومياً أني سأتخلص نهائياً من الوجه الذي أرتديه، أتخذ هذا القرار كل مساء حينما أعود من عملي مثقلاً بأحمال غيري، لقد تعبت فعلاً من هذا الروتين…

علي أن ألبس قناعي الزائف بمجرد نهوضي من فراشي لأتمكن من الوقوف والسير في عالم الأشباح الذي صرت جزءاً منه..

أبتسم في وجهي أمي لكيلا أملأ قلبها هماً، أمي التي بالكاد تعرفني… أبتسم لطفلي ليشعر بالاطمئنان فيشعرني كم هي فاشلة ابتسامتي، أبتسم لزوجتي لتكون قادرة على الاستمرار.. أتقبل إهمال الزملاء بلامبالاة، أتجاوز الإساءات، وأشارك في المبادرات وأفتح صفحات جديدة للجميع…

أنا سعد، رجل محترم أملك من الكياسة والملاحة الكثير، الرجل الذي لا يغضب، ولا تزعجه رقعة كبيرة في سرواله يتحايل عليها بسترة طويلة، وأرد على أسئلة الجميع… الحمد لله أنا بخير، وأنهض كلما وقعت نافضاً عن نفسي غبار الوجع.

اليوم قررت قراراً نهائياً غير قابل للطعن، ووضغته قيد التنفيذ في الحال… لن أبتسم إن لم أشعر بالفرح، لن أرد على من لا يعجبني… لست مضطراً لتبرير هفواتي ولن أختلق اعذاراً لأخطائهم الجسيمة… لست نبياً ولا زعيماً روحياً…. علاقتي بالله مباشرة، أدعوه وأنا فوق عربة الخضراوات التي أنغرس أمامها كل يوم ساعات طويلة، أنادي على الخيار والبندورة كأي شاب فشل في الحصول على شهادة تيسر له سبل وظيفة محترمة، وذلك بعد أن أتذلل لمدير يتستر على غيابي.. مديري الذي أزيده ست سنوات خبرة في الهندسة المدنية، لكني نُسقت إلى أرشيفه لأني أحمق لا يعرف كيف يسترزق، بل أشكل عرقلة واضحة لكل من يريد أن يفعل.

وهكذا نهضت من فراشي تاركاً قناعي في ذلك السرير الحديدي القديم، دخلت الحمام حافي القدمين غير مكترث بلهاث زوجتي ورائي ونباحها… هل لاحظتم، لقد نجحت في التخلي عن لباقتي وبدأت أسمي الأمور بمسمياتها الطبيعية.

الأولاد مازالوا نياماً… سأهرب قبل أن يوقظهم شجارنا، فلا ذنب لهم سوى أني والدهم… وهذه الجاهلة التي بالكاد حصلت على شهادة ما في حياتها هي أمهم.

تفحصني أبو إحسان بمقت كبير وهو واقف أمام دكانه، ثم نبح هو الآخر: صرنا على أبواب بداية الشهر… لا تنس، حسابك كبير.

تذكرت جاك في فيلم (التيتانيك) عندما كان يعلم روز كيف تبصق كالرجال فقررت أن أفعل مثل روز لأعرف هذا الشعور..

أخذت نفساً عكسياً وجمعت كمية كافية من السوائل اللزجة لأبصقها في اتجاه أكثر شخص لا يعرف درباً للخير أو الإحسان، بدفتره الذي يضاعف فيه ثمن أي شيء تستدينه.

لم أنتظر لأرى رد فعله، بل أوقفت سيارة أجرة وصعدت فيها مبيّتاً الشر، فآخر مرة تمكنت فيها من ركوب سيارة أجرة كتمت غيظي من فظاظة السائق والأجرة المرتفعة أمام والدة زوجتي حماتي العتيدة ،عندما اصطحبتها في رحلة بلا عودة كما تمنيت يومها.

كان السائق رجلاً في مثل عمري تقريباً.. بدت عليه لباقتي المقيتة، وعلى الرغم من ذلك بقيت حذراً.

سألني بلطف عن وجهتي، ومضى يسوق بطريقة مريحة للأعصاب مع صوت فيروز الذي ملأ أنفاسي…

كان بجيب بهدوء على أسئلتي الكثيرة والمزعجة، دون أن يحيد نظره عن الطريق، وعندما وصلت سألته عن الأجرة فردّ: ادفع ما تدفعه عادة يا أستاذ ولك كل الشكر..

أغاظني كلامه فأنا عادة لا أدفع أجرة سيارة، بل أنتظر باص النقل الداخلي وأنحشر كفأر مع عشرات متلاصقين في أوج أزمة وباء الكورونا اللعين.. وفي أحسن الأحوال أجد مقعداً.

رددت بفظاظة: كم تريد أخبرني؟

بلطف مفتعل أجابني: استفتاحية مباركة  من ابن حلال، لا مشكلة أستاذ..

(يا رجل قل كم تريد وأنهي هذا الجدال.. ستتسبب لي بجلطة دماغية ببرودة دمك… سيتوقف قلبي من بلادتك…)

كنت أردد هذا الكلمات في داخلي بشراسة، ثم فتحت فمي لأرشقها دفعة واحدة لكن الرجل لم ينتظرني.. وقال: خمسمائة..

فانفجرت بحديث آخر: خمسمائة، لماذا خمسمائة…؟

هل تتقاضى أجراً عن بلادة ذهنك ولطفك المزعج…و…و…و..

رد الرجل: لو سمحت يا أستاذ لمَ كل هذا الانفعال منذ الصباح، ادفع الأجرة التي تريد، وإن لم تكن تملك سامحك الله.. بإمكانك النزول وعوضي على الله.

– هل تظنني متسولاً أيها الأحمق… خذ هذه خمسمائتك الغبية مثل تصرفاتك.

 رميت ورقة الخمسمائة وحبست أنفاسي عكسياً مستجمعا ً أكبر قدرٍ يمكن…

لا أعرف كيف ابتلعت ما جمعت دفعة واحدة عندما أمسك السائق بقميصي وصرخ: اسمع أيها التافه….أنا لست نبياً  لأتحمل إلى ما لانهاية، لقد مللت من أمثالك المتمردين المتجبرين، أكره اضطراري للتعامل معكم يومياً متنكراً بثوب اللياقة من أجل تأمين لقمة عيش أولادي، وسأنزع ثوبي اليوم لأعلمك كيف تحترم الناس وتقدر أوضاعهم.

قد تظن نفسك موظفاً محترماً وراء مكتبك وأنا وضيع وراء مقود سيارة الأجرة، لكن فلتعلم إذن إني مدرس أحمل إجازة في الآداب وأعمل بشرف كسائق أجرة بالتناوب مع أخي المهندس، لأننا نرفض أن نسرق أموال الدولة أو نرتشي مثلك… فثوبك الأنيق هذا لا يخفي قباحة أخلاقك.

نزل السائق وفتح باب السيارة لي: اخرج من سيارتي قبل أن أحطم وجهك المحنط هذا.

نزلت دون أن أنبس ببنت شفة، ودخلت مبنى الشركة، وضعت يدي على وجهي معيداً قناعي قبل أن أنحني مبتسماً لمديري الذي مر على عجل دون أن يلمح شبحاً واقفاً في الظل.

اقترب مني الحارس  بقناعه المعتاد: خير يا أستاذ…هل هنالك شيء؟

 أجبته وأنا أدس في يده الخمسمائة التي أعادها السائق : أنا بخير يا عم  ….أنا بخير.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار