قراءة تحليلية في قصيدة (مزاد) للشاعر د. وفيق سليطين

الوحدة: 10- 8- 2020

 

يزخر  النص الأدبي  بعناصر لغوية وفكرية وخيالية، تسهم مجتمعةً في تشكيل بنائه الفني والذي يتمخض عن رؤيا شعرية، لذا لابد من البحث فيها جميعاً إذا ما أردنا مقاربة ما تنطوي عليه هذه التجربة.

والقصيدة عمل فني، مادته اللغة توظف فيه على نحو متميز، لذا علينا أن نولي اهتماماً خاصاً للوحدة اللغوية للعمل الشعري، من المعجم اللغوي، والتركيب، والنحو،  والتصوير وما إلى ذلك.

وهذا ما سنحاول فعله مع قصيدة (مزاد) للشاعر د. وفيق سليطين من ديوانه (أخضر كالسرير) الصادر عن الهيئة السورية العامة للكتاب، والتي يقول فيها:

خذوا ما تبقى ….

من جلد الشاة،

وأدران اللغة..

وإطارات المعنى.

 خذوا التفاحة التي لم تسقط

من جنة الله.

معي صورة أمي…

خذوا بدلاً منها مسامير الصليب،

خذوا غدي..

واتركوا لي أمسها الشاحب

خذوني بما سيحدث مني..

في قيامة العصور المؤجلة.

دعوا لي فقط

شهقة المسام،

والرسائل الغامضة

على بهو النافذة.

خذوا ما تبقى…

وافتتحوا المزاد:

– فتى العشب الملغز،

والصور القديمة الرثة..

كمن في قلبه إله يذوي

 محشوراً في ركن قصي مظلم

من قعر ذلك الإناء

تحرك القصيدة  المشاعر الوجدانية الصادقة فتحاكي ما في نفوس الناس، وخاصة أولئك الذين ارتبطوا بالعالم المحسوس ومكوناته، بل ارتبطوا بماضيهم وذكرياتهم فيه أياً كانت.

وبالوقوف على تخوم القصيدة فإن أول ما يشد انتباهنا هو العنوان, لأن العنوان يغري الباحث بتتبع دلالته ومحاولة فك شيفرته الرامزة، كما يشكل أول اتصال نوعي بين المرسل والمتلقي.

(مزاد) إنه بلا شك عنوان يختزل التجربة الشعورية التي أراد الشاعر أن يجسدها بالكلمات، فيستوقفنا من حيث مستويين:

الأول: المستوى الإفرادي, حيث تحمل كلمة مزاد الكثير من المعاني والإيحاءات التي ترتبط بمواقف العرض والطلب والمكونات المادية والمجتمعات التي تهتم بهذا النوع من التعاملات.

والثاني: المستوى التركيبي، حيث جاء العنوان كلمة واحدة نكرة (مزاد)، ولقد حملت هذه الكلمة النكرة قيمة جمالية عندما فتحت أفق النص إلى ما لا نهاية، فللحذف أهمية كبرى في إطلاق الدلالة وذلك لجعل القارئ يؤول ما تبقى فتتزاحم البدائل اللغوية لملء الفراغ القائم.

وسنلاحظ تالياً أن الشاعر عمد إلى الحذف والإضمار عن طريق النقط المتتابعة التي تشغل البياض بين الجمل وكذلك عن طريق التلغيز، وذلك  بهدف تشغيل مخيلة المتلقي وذهنه بتأويل الفراغات، وهكذا تختلف القراءات فلا تصل جميعها إلى معنى واحد لأنها لو فعلت لمات النص نتيجة لذلك.

وبهذا الغموض الإشكالي  يكلف الشاعر المتلقي مشقة الحفر في النص للقبض على مايريد إيصاله من معانٍ ودلالات، فما الذي يعرض للمزايدة هنا، وما المقابل الذي يدفع، من الذي يشتري، ومن الذي يبيع ؟

بالوقوف على جسد القصيدة نرى أنها تقع في واحد وعشرين سطراً متفاوت الطول، موزعة على مقطعين شعريين يربط بينهما خيط من التآزر والانسجام والتكامل.

يمثل المقطع الأول بؤرة الدلالة في القصيدة التي تتمحور حول ما يعرضه الشاعر للمزاد، ثم يأتي المقطع الثاني كنتيجة منطقية لذلك.

هناك أمور عدة لفتتنا في النص وتعتبر من مرتكزاته الأساسية، فإذا عدنا إلى افتتاحية القصيدة سنلاحظ بداية الخطاب الجماعي (خذوا…. دعوا…) وهذا ما يؤدي إلى التباس عند القارئ، فمن هو هذا المخاطب الجمعي؟ من هو الطرف الثاني الذي يعرض عليه الشاعر المكونات ذات العائدات المادية:

(جلد الشاة الذي كان بعد رمزاً للترف فيما مضى، اللغة التي اتسخت بعدما تأطرت بأهداف الأنظمة السياسية، التفاحة التي لم تسقط).

هل هذه المكونات موصولة بالمجتمع الرأسمالي المرتكز على المال، والذي ندد به الشاعر في أكثر من مقام فعرض على رموز ذلك المجتمع  أن يأخذوا المادي ويتركوا له الجوهر المعنوي؟ أم أنه يتحدث عن أي مجتمع مهما كان نظامه طالما أنه مجتمع مادي؟

إن كلمة اطارات في تركيب (إطارات المعنى) توحي بالحماية لكن إذا ما عدنا إلى تركيب أدران اللغة سيحمل الإطار دلالة أبعد، فالشاعر لا يقايض بالغالي، بل يقايض بالأمور الشكلية المادية، إنه يعيش حالة من الانفعال انبثقت من واقعه الحاضر لذا فهو يقدم كل شيء لتبقى صورة أمه معه:

معي صورة أمي….

خذوا بدلاً منها مسامير الصليب

خذوا غدي….

واتركوا لي أمسها الشاحب…

لقد لجأ الشاعر إلى مقايضة كل شيء مادي بصورة أمه حتى مسامير الصليب التي تعد رمزاً مقدساً، فهل قداسة أمه تفوق قداسة المسامير التي لمست جسد يسوع؟ طبعاً إنها كذلك بالنسبة إليه ولكن لهذه المسامير دلالة لغوية أخرى، فالمسامير تؤدي وظيفة التأديب والصلب، وتعليم الطاعة وهذا ما أراده المخاطب الجمعي من الشاعر، فرفضه الشاعر، وأراد أن يعيده إليهم فهو الآخر مكون مادي.

وهكذا نجد أن القصيدة قائمة على التناقض بين طرفي ثنائية (الأشياء المادية ذات الثمن، والأشياء المعنوية الموصولة بالحب والجمال… إنها الأشياء الإنسانية غير القابلة للبيع)، وهذه المكونات تترابط داخل النص في علاقات علينا نحن كقراء أن نلاحظها لنصل إلى الجوهر، فالشاعر يقايض الغد  بالأمس وليس أي أمس، إنه أمس شاحب، فأي حاضر هذا الذي يحياه؟ وما القيامة التي ينتظرها؟

إنها قيامة العصور المؤجلة، هذه القيامة التي توحي بتشاؤم الشاعر وهو ينظر بعين الحنين فبينما الزمن يتسارع لا شيء يتحقق.

إنه تقابل خفي بين الحاضر المؤلم والمستقبل ، لذا تتولد لحظة الانفعال التي تدفعه إلى البحث عما يطفئ وهج الانفعال ويعيد إليه توازنه واستقراره, وهنا يبدأ المقطع الثاني:

دعوا لي فقط شهقة المسام…..

يوحي تركيب (شهقة المسام) بتفتح الجلد الأول، فهل عاد الشاعر ليتنفس، هل ينتظر ولادة جديدة؟ إنه يقايض ويناقش ويفتح المزاد، وربما يكون ذلك الفتى مع أمه وألغازه وصوره، كل ما يريده الشاعر من هذا المزاد، فقلب الفتى يحمل إلهه الخاص (محشوراً)… وفي ذلك قدسية أخرى إذا يشير إلى يوم الحشر، ولكنه حشر لينطفئ في ركن قصي مظلم، فلماذا لم يقل الشاعر في ركن بعيد، لماذا أراده موغلاً في البعد، في القعر من ذاك الإناء؟

يرجح أن  هذا التعتيم  مقصود من الشاعر، فصوته مجروح وإن كان حاضراً وصوت المخاطب مسيطر وإن كان مجهولاً..

وبالعودة إلى القصيدة للبحث في الوسائل والأساليب التي استخدمها الشاعر في خطابه الشعري، نجده يفتتح القصيدة بفعل الأمر المسند إلى واو الجماعة: خذوا…

لقد جاء الأمر مجسداً للموقف الشعوري الذي يعبر عنه النص، بل إن النص كله قائم على ثنائية من الأمر المتضاد (خذوا، دعوا)، (خذوا، اتركوا) وهذا كله يشير إلى التعلق بالعالم الروحي الذي ينقذه من عالمه الحسي الأليم ويمنحه قدرة التحليق خارج الأطر المادية، لذلك يكثر الشاعر من النعوت (الرسائل الغامضة، العثور المؤجلة، أمسها الشاحب) والتراكيب الإضافية (أدران اللغة، وإطارات المعنى، جنة الله) وذلك كله مجتمعاً يسهم في توضيح المقصود.

ونضيف إليه غلبة الطابع الإنشائي الطلبي على القصيدة: (خذوا، اتركوا, دعوا، خذوني، افتتحوا)، وهذا ما يؤكد الدرجة العالية من التوتر والانفعال التي يعيشها الشاعر.

لقد وظف الشاعر أفعال الأمر التي غلبت على القصيدة والمشبعة بدلالات التمني في إشارة إلى رغبته المتزايدة في الالتحام بمواضيع والانفصال عن واقع يكرهه، كما نجده أحياناً يمزج بين الأفعال (خذوني بما سيحدث)، (خذوا ما تبقى)، (خذوا التي لم تسقط)، وهذا المزج أعطى النص حركة كما أفاد في استحضار الصور في الذهن وتعميق وحدة أثر الأفعال عند المتلقي فيصبح أثرها متساوياً في نفسه.

كما نجد أن الشاعر قد حقق هذا الأثر عن قصد أو دونه من خلال صوره واستعاراته (شهقة المسام), (أمسها الشاحب) فلقد شبه المسام بإنسان يشهق حذف المشبه به وأبقى على شيء من لوازمه ربما ليكني عن ولادة جديدة من خلال صورة الشهقة.

وكذلك شبه الأمس بإنسان مريض شاحب لكنه أمس عزيز على الرغم من ذلك، فهذه الصورة ماهي إلا محاكاة لما في واقعه المريض ولكنها أغلى منه.

لعل الشاعر يحاول ابتكار دلالات جديدة لصوره ورموزه لتتحول بواسطة اختياره الدقيق إلى طاقة فاعلة في التوصيف فشهقة المسام مثلاً، صورة رمزية تحقق غاية موضوعية وأخرى جمالية نفسية، والأمس الشاحب صورة رمزية أخرى تؤدي وظيفة حيوية متمثلة بطاقة الرمز الإيحائية والإشعاعات غير المحدودة.

فإذا ما انتقلنا إلى المحسنات التي استخدمها الشاعر كالطباق مثلاً:(خذوا، اتركوا), (خذوا، دعوا) سنجد ذلك يثير الخيال من خلال إعمال العقل في المتناقضات لتتحرك المشاعر وتؤثر في المتلقي.

وليكتمل التأثير نجد الشاعر يلجأ إلى تشكيل معالم الإيقاع في قصيدته من خلال اختيار وحدات متفاوتة الطول كانت أشبه بجمل موسيقية التي تلتئم في وحدة كبرى.

هذا التنويع أكسب القصيدة إيقاعات مختلفة وقد أفاد منه الشاعر بشكل درامي  في التعبير عن شعوره فجاءت ملائمة معنوياً ونفسياً.

فالإيقاع هنا جاء تدفقاً وانسياباً واعتمد على المعنى والإحساس أكثر من اعتماده على الوزن والتفعيلات، وهذا يدل أن المتحكم في القصيدة هو الدفقة الشعورية وبذلك  يطول السطر أو يقصر، هذا من ناحية الإيقاع الخارجي.

أما من ناحية الإيقاع الداخلي فلا يمكننا فصلها عن الحركة الدلالية القائمة في النص على طرفي ثنائية المزاد (خذوا واتركوا) التي تخترق النص كاملاً وتشكل جوهره، ويترتب على هذه الحركة الدلالية حركة إيقاعية تناسبها، ومن دونها يفقد النص قدرته على العزف على أوتار التفس، وتصبح اللغة مادة جامدة تفتقد حسن التعبير الصوتي، لذلك نجد حركة الإيقاع الداخلي في النص تتأرجح بين اليأس والألم، التشاؤم والتفاؤل، وهي حركة متفاوتة،  كما نجد الشاعر يعتمد تكرار عدد من  الكلمات المتقاربة في صيغها  لخلق ذلك الإيقاع، (خذوا، خذوا، خذوني، خذوا)

(من، منها, من، مني) وإن كان التكرار يمس الجانب اللفظي، فإنه هنا لا ينفصل عن الجانب الدلالي، بل إنه يستحوذ على طاقة إيقاعية وقيمة جمالية، يضاف إليها ظهور حروف المد(مزاد, خذوا، أدران، التفاحة، الصليب، العصور، تبقى، الإناء…) التي تفرض إيقاعها على إحساس المتلقي، وهو إيقاع مديد وبطيء يلائم نبرة الحزن والوجع.

ثم يأتي تناغم أحرف الجهر مع أحرف الهمس ليعكس الحالة الانفعالية المتسمة بالألم الذي يعيشه الشاعر.(تسقط، مسامير، شهقة) وهذا التداخل في طبيعة الأحرف يخلق صعوداً في حركة الإيقاع.

وهكذا نرى أن قصيدة النثر (مزاد) ذات وحدة موضوعية، اجتمعت فيها الخصائص الأسلوبية مع مكونات الصورة الشعرية.. و… لتعبر عن رؤيا الشاعر للحياة التي يعيشها وواقعه الذي يريد أن يبيعه في مزاد علني ليعود للعيش في عالم تعلق به وأحبه.

نور نديم عمران

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار