نساء من العيد…

الوحدة: 10- 8- 2020

 

إن كان اليوم عيداً أو غيره لا يمكن للقمة العيش أن تنتظر ولا يمكن أن نجلس في البيت بين الجدران بكسل وخمول ونطلب من السماء مائدة وطعاماً (شيء ما ينغل فينا هيا إلى العمل والقلب منا فرحان) ينتهي العمر والشغل لا ينتهي .

أم محمد تجاوزت السبعين بسنين ثلاث وحفرت على الوجه الحسان تقاسيماً وألحاناً يطرب لها أي فنان والقلب فيها مفعم بالحب والنشاط، لها تراتيل الصباح وانشراح صدر النهار ولا تمل أو تكل ولو جاء المساء، وتقول: نريد أن نعيش أنا وزوجي الغلبان هو يزرع الأرض وأنا أعتني ببقرتي الحلوب.

أم محمد وقد ألقت بحملها من الحشيش على الأكتاف المثقلة بخطوات العمر وفي يديها بعض الأغصان من المنكس ونعناع الماء التقيتها تهبط من أعالي الجبل أنا ورفيقاتي وبعض الأطفال الذين رافقونا المشوار، وقد راقهم ذاك الحمار الذي ركنته صاحبته وربطته على وتر شجرة وسط جسم النهر في قرية بلوران بعد انحسار مائه، فركضوا إليه باستغراب وحاولوا ركوبه لكن من يربح الرهان ؟ تضحك أم محمد وتقول لهم : ابتعدوا عنه قد يركلكم بقدميه ويؤذيكم، ولا أحد يستطيع ركوبه غيري، أنتم لكم سياراتكم وهذا هو سيارتي ولا يحتاج للبنزين والمازوت ولا بطاقة عائلة واعتماد . ( من زمان والله ما شفنا حمار) هي تمتطي صهوة حمارها بثوب رجال كل صباح وتعتمر يوماً جديداً، ليسير بها بين السيارات ومراكب النقل الواصلة إلى بلوران وكسب وشواطئ السمرة والبسيط بلا زمور ولا تشفيط، والكل يتوقف بلا إشارة حمراء ويفسح له الطريق فهو وحيد وفريد من نوعه وندر وجوده هذه الأيام التي تسير على التكنولوجيا والمجسات والمركبات الفضائية بسرعة ضوئية، وسرعته لا تتجاوز بعض الكيلو مترات في الساعة لكنه يحمل الكثير من العناء ويخفف عنها مشقة الطريق ومغبة حملها من الحشيش لبقرتها الحلوب التي تعتاش منها في سنوات مضت وأخرى قادمات.

قالت أم محمد بعد أن رمقت بعضاً من أنفاسها وقد استوقفتها جلبة الأطفال وأهاليهم وتحلقهم حولها باندفاع للسؤال عن فوائد الأعشاب التي تحملها و مخاطر الطريق إلى الجبل فترد وتقول: كل يوم في الصيف آتي إلى الجبل لقطف الأعشاب لبقرتي حيث تقل الأعشاب حول البيت، وأقطف أيضاً الأعشاب العطرية مثل الزعتر والزوفا لغليها كالشاي وهي أعذب مذاقاً وأنفع منها، وأجلب المنكس لأصنع منها مكنسة أكنس بها البيت والمصطبة تحت التوتة والجوز، وقليلاً ما تجدين الأعشاب بسبب أعمال الناس الذين يأتون للجبل بقصد الترفيه والمشوار حيث ينزعون الأعشاب من جذورها لتندثر ولا يبقى منها عود كما يتركون زبالتهم وأوساخهم دون أدنى اهتمام أو مسؤولية لتنتشر الأوبئة والأمراض و(الله يجيرنا من كورونا) إلى اليوم والحمد لله ما شفنا المرض الجبل بعيد عنا وقريتنا (النملة) ببيوتها التي لا تتجاوز العشرة بعيدة عن الطريق العام وغباره والجو فيها منعش ونقي ولطيف تفضلوا معي لنشرب الزوفا لكن ليس لكم أن تركبوا الحمار .لقد تأخرت وأريد أن أحضر الغذاء فقد يكون زوجي قد سبقني للبيت ومن يأتي أولاً منا يحضر الغداء، أنا مستيقظة من الرابعة صباحاً لأحلب البقرة وأوصل الحليب إلى البائع، يعطيني بالكيلو أربع مائة ليرة وكيس العلف ب25 ألف ليرة ولا يكفيها لأسبوع، لا مربح فيها وخسارة، لكن العمر مضى وأنا على هذا العمل منذ أن خلقت، ولا أستطيع الجلوس في البيت دون عمل وشغل (الشغل بجوهر) كما تعودت على بقرتي وقد رافقتني عشرات السنوات وكانت سبب عيشي وخبز أحلام البنات، لدي ثلاث بنات متزوجات وبعيدات عني ويأتين لزيارتي كل حين مع أولادهن.

هدى سلوم

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار