خلايا العشق في مدرسة الحياة..

الوحدة 2-7-2020

 

في فلسفة الحياة والموت لا أحد يستطيع أن يعتذر أو يعترض أو يهرب, الإنسان سيظل يشقى ويكابد حتى الوصول إلى الأجل المحتوم, والكاتب ينقب في الحيطان المشقوقة يكشف بمعوله صور الداخل بلا زيف ولا مراوغة ويسفر قناع أبطال الحياة المقرونة بالدموع والحاضر المر.

هالا مرعي صاحبة تجربة عريقة وعميقة تؤكد عمق وعيها وتوجيه كتابتها في مواجهة الواقع الممعن في قسوته كي يستأنس, تعتمد على رشاقة الحرف والسرد لتسترعي الانتباه وتشد القارئ, وفي رحلة بحثها عن خيوط قصصها تغوص في أعماق المجتمع, توصف التفاصيل الدقيقة للأحاسيس والمشاعر وردود الأفعال وتسرف في سرد النسيج المتشابك الذي يكون حياتنا ونفوسنا, تصور دقائق حياة أبطالها وما يدور في رؤوسهم وتحت جلودهم.

صدر للكاتبة عدة مجموعات قصصية منها ( رقص بلا إيقاع – عندما يغني الألم- نصف الحقيقة لا يجدي..) وفي مجموعتها ( خلايا العشق تهز جزع الأمل المعرش في أغصان الخيبات والحسرات وتدعو إلى المحبة والإنسانية للخروج من الردى والألم والإثم للوصول إلى الوعي كي يخرج المواطن والوطن من غرفة الإنعاش, وفيها تحقق غايتين وقيمتين فنيتين هما الحكاية التي تقرأ الواقع وتنغمس في تفاصيله التي ترغم القارئ على متابعتها وتماسك العمارة السردية وهندستها.

(خلايا العشق) مجموعة قصصية تضم في دفتيها 34 أقصوصة سردتها في 127 صفحة من القطع المتوسط رسمت خلالها ملامح اجتماعية شوهتها الحرب وتركت آثارها وتداعياتها في النفوس وعلى الأجيال القادمة, قصص مليئة بالمواقف الإنسانية المؤثرة تلج باب المجتمع وتدفعنا إلى عوالم متنوعة في صور تحمل المرارة والسخرية وتعري النفاق وتثبت قدرة الكاتبة وحرفيتها الأسلوبية في كتابة القصة القصيرة والتكثيف والتعبير عن الحدث لغة وحبكة وصياغة مختصرة.

الحب سر من أسرار الكون ضروري للحياة مثل الماء والهواء, فهو عملية متبادلة بين شخصين, وميض مستمر وإشعاع روحي يذهب من المحب إلى المحبوب ويشعر بالاكتئاب في غيابه, لكن لا أصعب من الحياة بدون حب وشظايا الأمل الخائب في النفس والغصة في الحلق, السعادة والتعاسة لا تقيمان خارج الإنسان بل داخله في القلب والعقل وشعور الإنسان أن رضا الآخر وسلامته تعنيه تماماً مثل سلامته ورضاه عن نفسه, وعندما يكون الانسان سعيداً يشعر بحالة صحية أفضل, لكن اختلاف الأفكار في النظرة للحياة تقلب السعادة إلى تعاسة والزواج إلى شقاء ونكد ولا مجال للهرب من الماضي وغصة الذكريات: ( الحب الحقيقي يأتي لمرة واحدة, فإما أن تتركه يقتلعك من جذورك, أو أن تنسى أمر السعادة) ص81.

عندما يتألم الوطن وينزف على الأديب أن يرمي لغة الحياد جانباً ويمتشق القلم للدفاع عنه, الإرهاب يريد شطبنا من قيود الزمان والمكان بخطاب سلفي قادم من عصور منسية تقطر دماً وسبايا يعود إلى بدايات البشرية الأولى, يريد جر الوطن إلى الجهة الخامسة, جهة الكفر والتكفير والضلال والأنفاق المظلمة, فالأفكار الرديئة مثل المستنقع الآسن لا تنعق فيه إلا الضفادع, قصة ( على أبواب المخيم) مفعمة بالمواقف الإنسانية ورفض الحيف والظلم وقتل الأبرياء تحت تأثير العقائد المسطحة والمقلوبة وتفضح بعض خبايا ما تمارسه العصابات الإرهابية المسلحة في وطننا وبعض ويلات ما تتعرض له المرأة في ظل توارث الربيع العربي الآسن الماضي وتصور الفاحشة على أنها حالة جهادية ومتعة جسدية وراحة نفسية. (جمع من النساء المنقبات المسلحات يتفحص النساء عند خروجهن ويقمن بتخليص ما جمعنه من بيوتهن ثم تجردهن من الثياب عنوة, وتدفع بهن عاريات أمام الحشود) ص116

تظل المرأة العامل الأكثر تأثيراً في ذهنية وعواطف الناس, قصة (شهرزاد) صورة اجتماعية تجف فيها علاقات الحب والإنسانية والأدب الإنساني لتطغى عليه العلاقات المادية والنفعية المتبادلة في منطق ساخر معكوس تنقلب فيه الموازين والمقاييس, رجال ينظرون إلى المرأة من خلال شكلها ولباسها, قصة الشاعرة (سهر) التي التقت بصاحب دار نشر يعاني فراغاً في الخيال وغزارة في الانتاج ومنشورات كثيرة ضحلة المحتوى وضعيفة المضمون , وممالأة المرأة على حساب الأدب والحقيقة وإشباع رغبته روحياً ومعنوياً وإقحام الأنوثة والمفاتن للترويح للعمل (كان صوتك الأنثوي ساحراً عبر الهاتف, ولكن يبدو أن الأسلاك لا تنقل كل شيء, فهي لا تنقل سحر العيون ولا جاذبية الشخصية, وها أنت أمامي من لحم ودم وشهرزاد جديدة سوف تلمع في سماء الأدب, تعد اكتفينا من الرجال وممالك الدبابير) ص59 .

تسبك هالا مرعي عالمها القصصي بعيداً عن التكلف وتسقط رؤيتها وتبوح عما في نفسها وما ينتابها وما تريد أن تقوله في لحظات إنسانية حارة أو جارحة بما تملك من أدوات الإحساس والتعبير, و (خلايا العشق) نصوص من مدرسة الحياة التي تُعلمنا الكثير من الوقت الذي تعجز فيه المدرسة الحقيقية عن تعليمنا كل ما يلزمنا للتغلب على متاعب الدهر.

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار