الروائيّ عادل شريفي وولادته الجديدة

الوحدة: 18- 6- 2020

 

رواية تقوم على فكرة قلما انتبه إليها الرواة بهذا المفهوم الذي تعاطاه الأديب عادل شريفي حين كشف اللثام عن الطاقة الروحية بشقيها الإيجابي والسلبي مركزاً على قدرة الإنسان الهائلة في استحضار ما يفكر فيه مستنداً في ذلك على نظريات علمية وفلسفات روحانية ما يدل على سعة ثقافته واطلاعه على التاريخ والمثيولوجيا معتمداً على أسلوب التناص مع الموروث الديني المسيحي والإسلامي وما يلفت النظر قدرته الفائقة في توظيف النص الديني لا بطريقة رجال الدين وإنما بطريقة المتبصر والمتعمق بما في النص من دلالات وظفها لتعميق المشهد الدرامي لدى المتلقي .. كما تمكن بفنية عالية أن يسقط المجردات على المحسوسات من خلال سلوكيات شخصيات الرواية .. وهنا نراه يستنطق الشخصيات  كلاً منها حسب صفاته الشخصية ومستواه الثقافي والاجتماعي بما يتماهى مع الحدث دون أن يقحم نفسه بشكل مباشر في تحريكها على مسرح الأحداث رغم أنه كان يستنسخ من شخصه وأفكاره صوراً شبيهة به وخاصة في شخصية جمال. وكانت الثيمة الزمكانية حاضرة بقوة في الرواية وخاصة خلال زيارة بطلة القصة مادلين لمدينة دمشق التي سماها أم الدنيا ما جعل القارئ يتلّمس عراقة هذه المدينة بمختلف العصور التي مرت عليها وبسحر الأماكن التي زارتها مادلين مع ابن عمها الذي كان يشرح لها حيثيات هذه الأمكنة، ويصفها لا بطريقة الفوتوغرافيك بل باستحضار روحانية المكان حتى تحول المكان في بعض فصول الرواية إلى بطل التحم فيه أبطال الرواية. ولا يفوتنا كيف تمكّن الكاتب من اصطحاب القارئ ليطلعه على الكثير من عادات وتقاليد العائلات الشامية وخاصة عائلة العادلي العريقة ما أثّر إيجاباً على الإيحاء بالمصداقية. هذا وغيره الكثير من المعطيات سردها الكاتب بأساليب متنوعة من الحوار والمناجاة والفلاش باك وبلغة منسابة سهلة التناول رغم أن الرواية حافلة بالمعاني الفلسفية واللاهوتية إلا أن الكاتب أوصلها إلى المتلقي بسلاسة ويسر ولم يبتعد عن اللغة الفصيحة ما جعلها عامل جذب واستقطاب. وركّزت الرواية على فكرة الخلق والولادة والموت والحالات النفسية التي تصيب الإنسان بتناقضاتها حينا وبانسجامها حيناً آخر وخاصة في شخصية مادلين التي حاولت الانتحار لتسوق لها الأقدار طيفا أخرجها من النفق المظلم إلى النور بما يشبه الحكايات الخيالية التي تأنس إليها الروح البشرية وبعد ذلك يأتيها الخلاص الحقيقي في عودتها إلى ما سماه الكاتب العودة إلى الجذور، وهذه العبارة كانت في بداية الرواية مبهمة عندما ذكرها الطيف قائلا لمادلين : عودي إلى جذورك ما جعلنا نتشوق لمعرفة سرها فراح الكاتب يأخذنا مع مادلين برفق وبتسلسل مقنع للحدث في توتره وفي سكينته لنصل إلى ما يسمى في النظريات النقدية ” التأبير ” ولكن بؤرة الحبكة هنا كانت سعيدة وأعطتنا الراحة فتنفسنا الصعداء بعد التأثيرات المحزنة التي رافقنا فيها قصة سوزان وعلاقتها مع مروان التي أسفرت عن ولادة مادلين وهجران حبيبها لها وهي التي رفضت الإجهاض وتحملت مشقات الولادة في القطار والعمل فيه في ظروف مادية صعبة ، وما تركته من آثار نفسية على سوزان . وفي البؤرة الأولى عندما التقت مادلين بأبيها بعد أكثر من عقدين من الزمن بدأت الأحداث تأخذ مساراً جديداً وتتصعد وصولاً إلى البؤرة الثانية. عندما عادت البطلة إلى جذورها في دمشق حيث تقيم عائلة أبيها لتأتي البؤرة الثالثة التراجيدية بوفاة الأب ومشاركة البطلة بتلقي التعازي وتعرفها إلى جميع أفراد العائلة ؛ ليأتي الفصل الأخير بعودة مادلين إلى اوستراليا حيث كانت بداية الرواية عندما كان والداها وكان مولدها ولكنها كانت في دمشق قد ولدت من جديد مثلما كانت أيضا قد ولدت من جديد عندما أنقذتها الأقدار من الموت.. بعد عودتها من دمشق كانت تضج روحها بحب الحياة والناس لأنها كانت سابقا تنتمي إلى الفراغ والآن صار لها هدف تحيا من أجله وهذا ما يفسر لنا لماذا اختار المؤلف عنوان ” ولدت مرتين ” والذي شكل عتبة مهمة للرواية.. دون أن نغفل ما لمفردة ” الولادة ” من دلالات مادية ومجازية على حد سواء . ولئن أغفل المؤلف ذكر وجهة مادلين بمعنى أنه ترك لنا أن نخمن هل عادت مادلين لتعيش مع والدتها أم مع إخوتها من أبيها بعد أن تقبلت زوجة أبيها وجودها.. وفي النهاية لابد من التنويه إلى أن الرواية عالجت قضية مهمة ألا وهي هجرة الشباب العرب إلى الغرب وما قد ينجم عنه من علاقات قد لا تنتهي بالزواج كما حدث مع مروان ورفض الآباء للزواج من أجنبيات وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى أسر لديها أسس تربوية صارمة كأسرة مروان وعلى رأسها والده الذي كان قائداً للشرطة في دمشق مع الأخذ بعين الاعتبار المرحلة الزمنية في سبعينيات القرن الماضي . وأخيراً أسجل للكاتب هذا التنوع بالأفكار وبالشخصيات وبالأمكنة كما أسجل له غوصه في تفاصيل الروح الإنسانية من جهة وفي تفاصيل الأحداث من جهة أخرى وهذا من الأركان المهمة لفن الرواية.

هيلانة عطاالله

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار