الرواية.. سبر للحياة وتجاوز للمألوف

الوحدة: 2- 6- 2020

 

الأدب يصنع من الحكايات والشخصيات جسداً مشتركاً ينفخ فيه كل كاتب من روحه ويترك عليه بصمته الخاصة…

الرواية من أجمل الفنون الأدبية وأكثرها قدرة على تحقيق المتعة الذهنية والحياتية للقارئ، وهي سبر للحياة الإنسانية وتجاوز لكل القيم المألوفة ومحاولة للخروج من الفخ الذي استحاله العالم، وتمثل تشاركاً فريداً بين الكاتب والقارئ، بين غريبين في حميمية مطلقة.

الرواية حفر عميق في البنى والعلاقات الاجتماعية (سياسية، اقتصادية، أخلاقية) تلامس قضايا هامة وحساسة لدى الفرد والمجتمع، والفضاء الروائي هو البيت والقرية والحقل والشارع والمدينة والسجن والبحر والسفينة وغيرهم، حيث ينهض بالتخييل صرح عمراني روائي متكامل في مجتمع معين والروايات المهذبة المسالمة التي لا تكتب تاريخ إنسانها ولا تقدم للوجود الإنساني شيئاً ولا تمتعه هي روايات ميتة سلفاً…

ذات يوم سئل نجيب محفوظ عن القاع المجتمعي الذي يصوره … هل هو إساءة لمصر !؟  فكان ردّه: ( أنا لم أنقل إلا جزءاً يسيراً مما رأيته وما هو موجود، وهذا عمل إبداعي غايته تجاوز كل ما هو قبيح).

لكل روائي طريقة سردية ومعمار خاص به من الصعب تقليدهما مثل بصمة الإبهام ولا يترك زاوية مهملة في الحدث ولا تكتمل لوحته الروائية إلا مع السطر الأخير، يبحث في كل نص عن مغامراته الجديدة المغيبة أو المسكوت عنها أو القابعة في زاوية معتمة ليصفها بل ليجعلها وسيلة لوصف الحياة من حوله، فالهدف ليس حبة الرمل التي تدخل المحارة، بل العملية الحيوية لإنتاج اللؤلؤة ، وبعض الكتّاب اتخذوا الرواية سبيلاً لمواجهة الواقع الأليم الذي يعيشونه وتسريب أفكارهم عبر شخصياتهم الروائية … حنا مينة حوّل معاناته إلى نهر روائي خالد، أصرّ أن يمتلئ عالمه الروائي بحكايا ناس اعتنقهم الشقاء حتى الثمالة رافضاً التخلي عنهم، وكأنه كان يدرك أي جحيم سيجرنا إليه جهلنا الذي تمسكنا به ولا نزال  رافضين مغادرته.

الرواية عامل مساعد لمعرفة الفرد والمجتمع وتسليط الضوء على أحداث وشخصيات حقيقية سياسية وأدبية وفنية، وهي حديث شيّق يوشوش لخفايا الذاكرة ويساهم بتشكيل الذائقة الأدبية وتطوير المهارات اللغوية، فالذاكرة تحيا وتتجدد بقدر ما تستقطب  من مفردات وتنتعش كلما امتلأت بالمزيد من حكايا الحياة المؤلمة أو الكوميدية أو المدهشة أو المتخيلة أو العجائبية، هناك روايات تجعلنا مشدوهين أمام ما يمكن أن يصل إليه من وحشية البشر ضد بعضهم البعض ولا يمكنه إلا أن يكفك دموعه أمام هذا الكم الهائل من المشاعر الإنسانية من حب وحنين وعنف وقهر وذل وصدق

وخشوع …في رواية (سرايا بنت الغول) للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي تبرز مأساة شعب يعيش منكوباً مدمراً مهجراً بسبب الاحتلال الذي جسده حبيبي بالغول البشع في اقترافاته التي تجاوزت اغتصاب الأرض إلى تدمير ذاكرته وشرعنة الاحتلال وتزييف الحقائق وطمس الذاكرة.

في الرواية تتابع حياة وتطورات المجتمعات العربية المعاصرة والغوص في نقل مضامين الواقع المجتمعي وكأننا نراها بأم العين… ما أحوجنا اليوم إلى عبد الرحمن منيف وأمثاله رائياً وروائياً وقارئاً ومبدعاً وناقداً للكثير من الرمال المتحركة التي لا تعرف أين وكيف تتجه بأمتنا، وماذا يفعل الإسرائيلي والتركي والغربي والأمريكي فوق ترابنا وفي مياهنا، منيف صاحب مدن الملح التي تتكون من خمسة أجزاء منفصلة عن بعضها البعض والتي تعتبر أيقونة الرواية العربية القادرة على الاكتشاف وتوليد الأسئلة التي يصعب الإجابة عليها والتي تناول فيها أحداث اكتشاف النفط في منطقة الخليج العربي والسعودية خصوصاً وما طرأ على الحياة فيها منذ بداية القرن العشرين وحتى نهايته.

المرأة مادة أدبية بامتياز هي مادة التفكير والحب وانشغال الروح وهاجس أدبي للأدباء هي فردوسهم وحاملة قولهم والقنوات التي يتدفق خلالها السرد، ودخلت الرواية في المعاناة العاطفية والفكرية والجسدية للأنثى وأحوالها وأماطت اللثام عن الصمت الذي يلف وجود الأنثى في مجتمع ذكوري وفضحت النظرة الذكورية والضغوط التي تمارس عليها بفعل تناقضات المجتمع وفصامه … رواية نساء العتبات للكاتبة العراقية هدية حسين رمزية لكل إمرأة عانت الاضطهاد والعنف وسفك دماء طفولتها وأمومتها على بلاط ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، تطرح فيها قضايا المرأة  العراقية والعربية ضمن معالجتها جملة من المشكلات الاجتماعية والسياسية وتحدثت عن بؤس المجتمع وبؤس السلطة والحرب وتداعياتها وتأثيراتها النفسية العميقة على المرأة وأرخت مرحلة سياسية دامية من تاريخ العراق المعاصر.

قراءة الرواية من الكتاب تمنحنا الفرصة الكبيرة للتفكير وقدراً مهماً من الفائدة وتخيل الأحداث والأمكنة التي تعجز المشاهد البصرية عن منحها، ومهما بلغت براعة السيناريو والمخرج وإبهار الصورة فإنه من الصعب نقل العمل الروائي إلى خيال القارئ، علماً أن جميع الفنون البصرية نهلت من معين الأعمال الروائية و ارتقت بفضلها حكاية  وحواراً وصورة، والكتاب الروائيون تصيبهم الصدمة والإحباط إزاء تأطير رواياتهم في مساحة زمانية ومكانية غير كافية للتعبير كابدوه حتى لحظة ولادة رواياتهم عما  بعد مخاض إبداعي عسير.

نحن نعيش فوضى روائية تفقد الرواية  قيمتها ومتعتها وتجعل القارئ ضحية الروايات المبتذلة التي تئن فجاجة وضعفاً على أصعدة الحبكة وبناء الشخصيات والأحداث في الزمان والمكان وسطحية الحوار وبلادته، تشيع بين القراءة لغة فقيرة قاموسياً وركيكة أسلوبياً، وهناك روايات عصرية ناجحة في خطابها ومفرداتها تلمع كالجواهر في محيط الرداءة العارم تمد القارئ ببعض ما أودعه فيها الكاتب من أحداث وتفاصيل وتراكمات وتفاصيل وتراكمات وأحداث وشخصيات تركت أثراً أثيراً لديه.

 نعمان إبراهيم حميشة

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار