الوحدة : 4-5-2020
ها هي ذاكرتي تقف شامخةً منتصبةً لتعلنَ الانتصار, فقد استطاعت على الدّوام أنْ تُعيدَني إلى تلك المربّعات والدّوائر التي هجرْتُها مُذْ غادرَتْ تلك الغادة الفاتنة حيّنا, تلك الفاتنة الّتي كانتْ تبثّ الحياة في الحيّ وتنشر الفرح في النّفوس وتُسعدُ النّاظرين إلى مُحيّاها الجميل, كما كانتْ تُنير للتّائهين في عتمة الّليل الدّروب بوجهها الوضّاء, كما تُطرب الآذان بصوتها الّذي لا أرى له شبيهاً أو مثيلاً.
هي الذّاكرة الّتي تجعلني أحيا وأستجدي العُمرَ مرّة بعد مرّة, وأنا الهارب نحو ذي الحياة المُشبع بأسبابها, أنا المغامر في مقامرة الموت والحبّ, لأنّي ما زلتُ مؤمناً بأنّ الحياة لي ما دامَتْ قد وهبتني إيّاها تلك الغادة بلحظ عينيها.
هي الذّاكرة الّتي ما انّفكّتْ توقفني في الطّرقات وعند المنعطفات, وتخبرني بأنّ ذكرى جميلة هاهنا وحياة حبّ توقّفتْ هنا, وأنّ هذه الشّجرة ما زالتْ تحتفظ بهمسنا وبوح مشاعرنا على ذا المقعد الّذي ما زال متسمّراً مكانه ليروي حكاية عاشقين اثنين كتبا قصّة الحياة هنا.
أيا حبيبة, وأنتِ عيناي, كيف غِبْتِ عنّي وأصبحْتُ أعمى وصِرْتُ بلا عينين, أيا حبيبة, وأنتِ عَصَايَ ومتّكأي, وأنتِ الدّرب الّذي أمشي.
أيا حبيبة, هي الرّيح تحملني كورقةٍ حطّتها الأيّام على دروبها المبعثرة واللا منتهية, فأخذتُ أنتظر الوقتَ ليمضي بعيداً وأصيرُ نسياً منسيّاً إلاّ من ذاكرةٍ تُعيد لي حبّاً براني وقد مضى فأراني ينسكب الدّمع من عينين تجمّرتا سهداً, وأبقى منتظراً بعضَ غيمٍ يلوح في الأفق علّهُ يأتي بريحٍ قبل المطر وأبقى كشهقةٍ في الفجر لم تُبصرِ النّورَ ولم تجد إلى الحياة سبيلاً فماتتْ قبل مولدها, فأنادي زماني: يا أيُّها الزّمن الغادر كيف منحتني الحياة بلقاء وسلبتني الموت بوهج وجه ورهج ضياء؟ وكيف الآن تسلبني حياتي وتقضي بالموت فلا حبيبة أداعب جدائلها, أيا زماني ما نفع عيني إنْ لم أُبصر بها إشراقة ضوء وفجرِ صبحٍ أرقبه؟ يا أيُّها الزّمن الغادر لو تدري ما فعلْتَهُ بي, وقد صرتُ أُجالسُ وحدتي وأسألها: مَنْ تُراهُ يُبدِّد أوجاعي؟
نعيم علي ميّا