الوحدة : 4-5-2020
تهاجمني أوجاع الكتابة فينهض القلم متثاقلاً يجر خطواته البطيئة المتعثرة، آه يا وجع القصيدة، كيف يلملم الحبر أنفاسه ليعاود الحياة؟
أربعون يوماً مرت على الحجر الصحي ومازال شبح الموت جاثماً على شرفات بيوتنا، ينهش تفاصيلنا ويتحكم في سيرها كيف يشاء.
أسبوع واحد فصلني عن تحقيق حلمي كأي عروس بليلة العمر…. نعم أسبوع واحد لولاه لكنا معاً، لكن جاء قرار حظر التنقلات بين المحافظات لتظل معرشاً مع الياسمين الدمشقي وأبقى حبيسة نسمة بحرية حائرة.
اليوم وبعد أربعين يوماً أخرج لتنفس هواءٍ نقي، صعدت لأول مرة سطح البناء بعد إلحاح أهلي لأرى لاذقيتي تحنو على بحر هائج وتحاول عبثاً تهدئته، غريب حال الطقس…. يكاد الربيع يرحل والأمطار لم تتوقف بعد، والأغرب والأجمل رؤية المدينة من الطابق الثامن، كل شيء يبدو مختلفاً، فالأبنية العشوائية التي أمقتها تذكرني بلوحات التشكيليين التجريدية التي لا يفهمها أحد لكنها تبدو جميلة بالفعل.
كم أبغض العشوائيات والفوضى التي تعمها، والفقر وقلة الخدمات لكونها لا تتبع لجهة ما… إنها كالديك الرومي الذي ينكره أهل روما فيقولون عنه ديكاً فرنسياً، وفي فرنسا يلقبونه بالكوبي وفي كوبا بالأسترالي وهكذا.. بحيث يتبرأ منه الجميع.
ما أسخفني! أي أفكار راودتني بعد كل ما مر على رأسي… لكن في الحقيقة لم أتوقع رؤية كل هؤلاء الناس في الشوارع يتسابقون لتأمين حاجياتهم، إنه شعبنا العتيد الذي نسي الخوف في زحمة سعيه لتأمين لقمة العيش في سنوات الحرب العشرة.
لقد انتهى زمن الخوف بالنسبة إليه عندما بدأ خوف العالم كله، آه يا حازم… كم وددت لو أتحرر من كل شيء وألقي نفسي من الطابق الثامن لأطير كفراشة ربيعية غبية وأذوي في ضوء الشمس الغارق في المغيب، لكن نظرات أمي المشفقة على ضعفي جعلتني أرحم أمومتها.
يا ليتنا كنا في الحجر معاً، تخيل لو أننا لوحدنا بعيداً عن تطفلات كل البشر، نحن اللذان حلمنا أن يجمعنا سقف واحد.. لوحدنا بكل ما نحمله من شغف وأحلام وانسجام.
(لو…) أوه .. أوه… يا حبيبي من هذه الكلمة، لن أقول إنها خنجر يطعن صدري أو نار تحرقني فأنا كما تقول لست تقليدية، بل كنت تؤكد أني مختلفة في تشبيهاتي وأفكاري واهتماماتي ورقتي التي سأتخلى عنها الآن لأصف لك ما تفعله (لو) إنها أشبه بشفرات خلاط كهربائي يخترق حنجرتي ويدور طاحناً كل أجزائها ومغرقاً أنفاسي بدمها.
آه يا حبي… أي ظلم وقع علينا فبقيت عالقاً مع عطر الياسمين وبقيت عالقة في موجة تصطدم بصخور قاسية؟!
آه يا حازم …لو تأخر القرار أسبوعاً واحداً لكنت من الأهل المقربين الذين سمحت الحكومة بتواجدهم أثناء دفن موتاهم المصابين بفايروس كورونا… ولتمكنت من وداع وجهك الجميل لآخر مرة قبل أن توارى الثرى.
أسبوع واحد فصلني ربما عن أن أتشارك وإياك تربة واحدة تحتوي جسدينا وفضاء واسعاً لروحينا نحلق به بعيداً عن شرور العالم وفيروساتهم المصنعة والتي ستصّنع لاحقاً.
لم يعد هذا العالم يعنيني بعدك فأنا خارج دائرته منذ أربعين يوماً قاهراً، لذا ألقيت عليه غير آسفة نظرة وداع لمحتها أمي قبل أن أعود معها لحجري العاطفي، فضممتني وهمست:
لو تأخر القرار أسبوعاً واحداً لكنا فقدناك للأبد…. حكمته ورحمته سبحانه.
مزقت قلبي ابتسامة الرضا التي لمحتها في وجه أمي، وددت لو أتحرر منها لأعود فراشة لكنها طوقتني بذلك الرضا وأنزلتني الدرج بهدوء وهي تتمتم: شئت أن تكوني معه وشاء الله أن تكوني معنا…. والحمد لله أنه شاء.
نور نديم عمران