النصيحة سلعة رائجة بلا احتكار

الوحدة : 2-5-2020

كانت النصيحة بجمل لما لها من مكانة وقيمة عند ناسها، وتقدم بصحن من ذهب للأولاد لينتصحوا ويقوّموا بها أخلاقهم وأعمالهم وسلوكياتهم، وما عادوا اليوم ينتصحون، بعد أن تعددت وسائل الاتصال وانصرف الأهل عنهم وانشغلوا بهموم الحياة ومناكبها سعياً لتأمين العيش لهم بل الرفاهية، ليتركوا الفراغ الذي يملؤه لهم غيرهم بوسائط وعبارات تدق عيونهم قبل آذانهم، وهم مخدرون وبلا اختيار ينجرون خلف الواهيات بحجج ونصائح وإرشادات كسلع رائجة لأبناء جيل حضاري تعرى من التبعية لأبويه وبات مستقلاً بنفسه ولا يحتاج للنصيحة..

نعم لا أحب النصائح من أمي وأبي هذا أول ما نطق به الشاب عماد وهو جامعي في كلية الهندسة المدنية سنة رابعة حيث قال: لقد سئمت من نصائحهما وإرشادات يقدمانها كوجبات الطعام عند خروجي من المنزل وعند عودتي وكأني طفل صغير، ليتركاني أعيش حياتي كما أريد ودون توصيات لقد دخلت الفرع الذي أراداه لي ولم أمنعهما يوماً عن مصارحتي بآمالهما وأمانيهما في ولدهما الوحيد (أنا) وأجد نفسي ضعيفاً أمامهما وحتى أنهما لا يترددان في سكب الكلام أمام رفاقي والزوار، حتى أنهما ينادياني بـ (دادو) فأخجل ويحمر وجهي غيظاً وأكاد أنفجر عندما يبدأ أحدهما بإعطائي المواعظ والنصائح (الرفاق أكثرهم أصحاب سوء فلا تتأخر وتذهب معهم دون أن تعلمنا، انتبه لنفسك ولا تتشاجر مع أحد، حافظ على اجتهادك وداوم على حضور المحاضرات وانتبه للأستاذ و..) لقد أصبحت شاباً وسلوكي صحيح وشخصيتي محبوبة وأتحمل الكثير، حتى أن الفتاة التي أحببتها تركتني بعد أن دخلت بيتنا ومن أول مرة زارتنا فيها، وحجتها أن والداي يسلباني حريتي ولا يتركاني على سجيتي وراحتي، وفي كل حركة مني جملة توصيات وإرشادات على أنها نصائح بالمجان، فكيف لها أن تعيش بيننا ؟ لا أخجل وأقول بأني استفدت من خبرتهما في الحياة وتوصياتهما أعمل بها إلى اليوم، لكن ليستفيقا على أني كبير ولم أعد ذاك الصغير، وما زرعاه في نفسي كثير ولن يخيب أملهما بتربيتي لكن زماني غير زمانهما، ونحن نعيش وسط بث مباشر لتعليمات وتوجيهات ونصائح بالمجان للجميع وما أوسعها وأغناها اليوم وليس عليها احتكار.

أمتص توجيهات والدتي ونصائحها التي لا تنتهي حتى بعد زواجي واستقراري في بيت بعيد عنها، هذا ما روته جيهان وتابعت بقولها: منذ كنت صغيرة ووالدتي لا تكل ولا تمل من توصياتها على أنها زبدة حياتها، وأنا بالوقت ذاته لم أكن لأسأم من حديثها وما كان علي غير الإنصات ولو تنصلت منه، لقد استفدت كثيراً من نصائحها خاصة في تعاملي مع حماتي، لأنجح في حياتي الزوجية وأسعد مع زوجي.

أما سوزان فهي على العكس منذ ذلك إذ ترى نفسها فاشلة وغير قادرة على تحمل المسؤولية عندما تسكب والدتها أو صديقتها النصيحة على مسامعها وباستمرار، وتجد أنها غير قادرة على العمل بها وتزيد في عنادها، فهي لا تتماشى مع مصلحتها بعد قناعتها أن الذي تعيشه يختلف كثيراً عن حياتها ومنظورها فلكل منهما تجارب تختلف عن الآخر في المكان والزمان، ويمكن أن تتصفح النت وتلقى تجارب فيه ونصائح بلا فروض أو قيود ولها الحرية في أن تتقبلها أو ترفضها، وترى فيها سلعة قابلة للعرض والطلب حين اللزوم.

الشاب وسيم بكالوريا: لا يزال والداه يحفزانه ويوجهانه إلى التزام المواظبة على الحفظ والدرس، وأكره ذلك إذ أكثر ما يغيظني في النصائح ما يتعلق بالدرس وأنا متوتر جداً خاصة بعد هذه العطلة التي عشتها في قفص البيت، مع أني متفوق وناجح وأتربص علامات ممتازة وأعلم أنها سنة تقرر المصير، أقدر لهما الصيحة ولها موقع عندي لكن تكرارها يدفعني أحياناً لفتح الكتاب فقط وعيوني بعيدة عنه ولا أدرس.

السيدة عفراء ترى أنه من الواجب على الكبار أن يقدموا نصائحهم لأولادهم ولو لم يتقبلوها، فهي زادهم في الحياة ونتائج خبرة سنوات عمر ولى وانقضى واستخلصوا منه العبر والدروس، هي إرث كما غيره من الماديات عليهم الحفاظ عليه، فقد يستفيدون منه في الأيام القاحلة والصعاب، علينا أن نملي عليهم توصياتنا وإرشاداتنا دون إلغاء آرائهم وشخصياتهم بالحوار والإقناع ولهم حق الاختيار، وليس من قانون يلزمهم غير الواجب والضمير والقلب المفعم بالحب والحياة.

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار