(كنّس بيتك ما بتعرف مين بدوسو، وغسل وجهك ما بتعرف مين ببوسو)

الوحدة : 29-4-2020

تكاد لا تذهب صورتها الدرامية في البعيد لتلك الصغيرة التي حملها شغفها وفطرتها أن تندفع صوب المكنسة وتمسكها يدها الناعمة بكل ما جاءتها عزيمتها لتكنس بهو الدار وأمها غافلة عنها في شغلها، وتبكي حين يخطفها أخوها من يدها ويركب عودها كحصان أو يحلق بها بجناحين وسط رف الطيور والعصافير كما في فيلم كرتوني من قصص الخيال، أما عند الجدة أم يعقوب فللمكنسة حكايات وتعاليم وتقاليد تسردها لنا كالتالي….

للمكنسة مكانة ودليل عندنا وفي عاداتنا التي كنس منها الكثير هذا الجيل بزيفه وتنكره لتقاليدنا التي عدها من مخلفات زمن ولى وانقضى، ووضعها خلف ظهره في كيس زبالة ليرميها في حاويات هذا الزمان البليد.

وكانت قد بدأت الحديث بأهل العريس الذين يقصدون بيت فتاة اختاروها زوجة لابنهم وما إن تدخل (الحماة) حتى تنقب في أرجاء البيت عن نظافته وهي قد حفظت المثل الذي يتداوله أهل القرية من الأجداد (لا تطلعي على طولها وخصرها واطلعي شو في تحت حصرها) فقد كانت هي كذلك فتاة في عز صباها تكنس الدار وتضع الأوساخ تحت الحصيرة لعجلة من أمرها، أما وإن كان البيت نظيفاً والمكنسة قد أخرجت كل الغبار من المسكن فيمكن أن تقول الزائرة عن نظافته (الزيت عن الأرض بتلحسيه) وعندها تخرج وعلى عتبتها (الزغاليط)، كما أن الوالدة كانت تنهر ابنتها وتلومها إن هي كنست البيت بعد أن يخرج إخوتها من باب الدار بعد زيارتهم لها مع أولادهم وزوجاتهم فذلك يبعث في نفسها التشاؤم ويثير مخاوفها من أن شراً يترصد طريقهم، كما ولطالما نبهتها وأوصتها ألا تكنس البيت في الليل وترمي الأوساخ خارجه لأن ذلك يذهب برزقه بعيداً ويأتي بالقلة والشح، ولترجئ أمره للصباح، وفي كل يوم وما إن تنهض من فراشها تلك الفتاة حتى ترميها بالقول وتردد عليها طالبة منها أن تكنس البيت (كنس بيتك ما بتعرف مين بدوسو وغسل وجهك ما بتعرف مين ببوسو) وهذه الفتاة تركض لتغسل وجهها وتتباطأ في الأمر الآخر، لكن ليس في مثل هذا الأمر حين يأتيهم ضيف ثقيل وغير مرغوب أو مرحب به عندها يكون الحل بالمكنسة التي تغرز في مسكتها دبوس فيكون فيه السحر الذي يدفعه للمغادرة بأسرع ما جاء، أما عندما يضج الأولاد والرأس منهم طاش أو عملوا السيئات وأذنبوا وقصروا في الواجبات فيمكن للمكنسة أن تكون عصا بيد سيدة الدار لتضربهم بها وقد تتسبب بالأوجاع..

آه الأمثال كثيرة عن المكنسة ودلائلها في كل حال، وكانت بسيطة الصنع ونصنعها بأيدينا من النباتات التي نزرعها أو أغصان شجيرات الأودية والجبال، حيث نصنعها من ثمار القصب المتراصة في تخوم الحقول لتكون ناعمة جداً فتأخذ معها الغبار، ويصبح الدار وكأنه قد شطف ولمع بالمنظفات وأفضل مما هو اليوم بعشرات المرات، أو من شجيرة (البلان) وهي خشنة يمكن أن نكنس بها البهو وحول الدار.

إن مكانس اليوم هي من النايلون الذي يأخذ في وجهه كل أسباب الحياة، أو مكنسة كهربائية قد قصمت ظهر مشتريها بالسعر ومكنسة الأمس لم تفعلها يوماً، كان كل منا يكنس جانب داره إلى أطراف بيت جاره لتكون القرية بأحلى وجه ولا تحتاج لعمال نظافة وبلديات كما اليوم الذين ازدادوا بأعدادهم وازدادت الزبالة وقلت النظافة بعد أن أمسك الناس عن المكنسة وأرخوا أمرها للعمال، حتى وصل الأمر للاستعانة بعاملات لكنس الشوارع، ولما لا وهن يجدن مثل هذا الشغل وما العيب فهن يكنسن بيوتهن وحولها، ويمكن أن يكنسن الشوارع فالأمر ذاته، وفد وجدن في عملهن هذا مصدراً للعيش.

أما اليوم فقد أمسكت المكنسة تلك الفتيات ولو بعمر الورود ليس في بيوت أسرهن ولا أزواجهن بل في الشوارع!

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار