عفوية الحديث

العدد: 9299

25-2-2019

فترة طويلة مرّت، لم أسمع صوته، ولم تصلني منه رسالة، وهو الذي كان خير صاحب في زمن الغربة حيث كنت في الجزائر أرض الشهادة فكان حديثه وسلوكه يخفّفان عنّي ألم الغربة ومعاناتها عملنا سوية في مجال التعليم وكانت لنا مناقشاتنا في الثقافة والسياسة وكان في كلّ مرّة يؤكّد نظرته إلى السّوري الذي رأى فيه أنموذجاً، يمثّل الجدّية والاهتمام واحترام الذات، السّوري الذي يحمل من الذكاء ما يجعله ناجحاً في عمله، وإيصال ما يريده إلى الآخرين، السّوري الذي يعمل بموضوعية يخاطب المتلقي بما يجب أن يقال.
أمس الأول خاطبني فسررت ولكن هذه المرّة كان عاتباً وبشدّة قائلاً: أفيقوا أيّها السوريون أين أنتم؟! وباللهجة الجزائرية قال: (ما شقاش تعيّبوا روحكم بالعربان الذين باعوا الشرف أتباعهم والأرض والإنسان).
ذكرني بحادثة كانت ترويها جدته عن امرأة كانت تقول لولدها: حدّثته والدته عن ضعف أبيه الذي يعوضه بضرب ابنه والتطاول على أمّه، إنها عفوية الحديث التي أيقظت فينا المشاعر فنحن من تحملنا والعرب والعروبة كامل الهمّ والغمّ والأحزان، لكن قلت له لا عليك أقدرنا أن نكون للأمة ونحن لسنا نادمين مهما بلغت ضريبة الدّم في زمن القحط العربي ولكن قال: لله دركم أيّها السوريون وهل يا ترى ما زلتم قادرين على النسيان؟ فأجبته للحديث بقية.
لقد قيل: السذّج يحتاجون إلى أعوام طويلة ليبرأوا من عاطفة ما، أمّا من تعوّد أن يكون سيّد نفسه فأحزانه تخضع لإرادته يصرفها حين يشاء، لا عليك وتذكَّرْ كم هتفنا للأمّة الواحدة لكن كنت تقول: العولمة والحداثة وها نحن نقول: ضريبة العولمة كبيرة، والحداثة أهم قضايا العصر، لكنّه مصطلح خلافي في أذهان الناس وصورته شديدة التباين فيما بينهم وقد يقول قائل: إنّه مفهوم غربي لكن التنمية وتضافر عوامل مختلفة معرفية وعلمية أدّت إلى الحداثة، وكأن الزمن فرض ذاته، الجديد في مواجهة القديم، والجديد ليس في الأدب والفكر وحسب، وإنما هي ثورة على التقاليد والقيود ولم يعد مجدياً في ظلّ عالم أصبح موحداً ومتدخلاً وبالغ التأثير في السلب أكثر من الإيجاب، إنما روح وإنها حالة أكثر مما هي صيغة وتقسّم الناس برؤيتهم إلى أنماط وآراء فبعضهم نزع إلى السخرية من القديم برمّته، ومعرفة وثيقة للواقع أيّاً أجمل القوى الفاعلة في الإنسان للوصول إلى حياة كريمة، وتذكرت قول صديقي: إنّ الأرض العربية متحركة القوى خائرة ضعيفة ونحن ما زلنا نغنّي مع البارودي:
بلاد العرب أوطاني                من الشام لبغدان
ومن نجدٍ إلى يمنٍ                إلى مصر فتطوان
فلا حدٌّ يباعدنا                      ولا دينٌّ يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا             بغسّان وعدنان
خطاب حَكُمَ العرب فيه قروناً من الزمن، تخبو ضياءاته اليوم ولكن لم تنطفئ شعلته في سورية الشاطئ الأمين الذي يلجأ إليه المتعبون على الرغم من الهموم والجراح فلا تيأس يا صاحبي سيستمرُّ الصوت عالياً وستشرق الشمس مهما طال ليل الباطل وسواد الظالمين: هاتفين دائماً حماة الدّيار عليكم سلام.

د. مبارك سعيد

تصفح المزيد..
آخر الأخبار