للكتب جدوى على اختلاف مستوياتها ولكنـّها تحتاج لدعم وطني مؤسساتي

العدد : 9552
الثلاثاء : 17 آذار 2020

 

يقول الكاتب الشهير هنري ميللر: ما جدوى الكتب إذا لم ترجعنا إلى الحياة، إذا لم تجعلنا نّغبُّ من مائها بلغة أشدّ؟

وللأسف تطالعنا اليوم عشرات الكتب على اختلاف توجهاتها لا ينطبق عليها أدنى مقومات الفائدة، أو بمعنى آخر لا تغني ولا تثمن، هي مجرد حبر على ورق، هذا إن أتيح للمتلقي مشاهدتها والاطلاع على محتواها، نحن هنا لا نعمم فلا تزال هناك كتب عظيمة تدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ولكنّ إلى أي حدّ تنطبق مقولة ميللر على منشورات كتّابنا وأدبائنا الشباب منهم والمخضرمون؟ وما هو دور فرع الاتحاد في تقييم هذه الكتب؟ كانت تلك محطة نقاشنا مع د. صلاح الدين يونس رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب في اللاذقية ومع صاحب دار عين الزهور للنشر والتوزيع الأستاذ لوثر حسن فماذا جاء في رأيهما عن الكتاب والكاتب؟

كثيرة هي الآراء التي تحدّثت عن الكتابة والكتّاب والكتب، وكثيرة أقوال الشعراء فيما تقدّم والأكثر من هذا وذاك إعجاب القراء على مدى الدهور وتتالي العصور بآراء الشعراء والكتّاب والمفكرين فيما يخصّ المسألة التي نطرحها، وهي جدوى الكتب في إحالتها لنا إلى الحياة.
الآراء النفعية (البراغماتية)، تربط دائما بين الكتابة والعلم والأدب والفلسفة والصناعة وبين منافعها للناس، وهذه الفلسفة هي الفلسفة الوحيدة التي نشأت في الولايات المتحدة، من دون مهاد أوروبي يسبقها، فالفلسفات الأوروبية عبرت المحيط الأطلسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأعادت إنشاء ذاتها على الأراضي البكر (أميركا)، ولكن الأرض الجديدة والأمة الجديدة لم تحافظ على النشأة الأولى لفلسفات أوروبا، وإنما أعادت صياغتها بما يتناسب مع طبيعة المجتمع التركيبي الولايات المتحدة الأمريكية.
أما الفلسفة البراغماتية في الفلسفة الوحيدة التي أنشأها الأمريكيون من صميم المجتمع الجديد وتقوم على فكرة جوهرية (الحقيقية ما ينفعني) أو الحقيقة ما تجدي، الحقيقة حيث مصلحتي، الحقيقة ما أراه لي.. ومن هنا نستطيع أن نتفهم مقولة (ميللر) أي إحالة البشر إلى ما ينفعهم من القراءة.
وفي السياق ذاته نقرأ لمفكر أميركي (شاعر) وفيلسوف هو وولف والدو إيمرسون توفي (1883) كان يرى المسألة على نحوٍ آخر، وهو أن لكلّ عصرٍ كتبه وآن لنا نحن الأمريكيين أن نكتب كتبنا، فعينا الإنسان في مقدمة رأسه وليستا في مؤخرته.. لقد مللنا ونحن نصغي لأرباب الشعر في إنكلترة وأوروبا، لقد آن لنا أن نصغي إلى صوتنا الداخلي، وآن لنا أن نسمعه العالم غيرنا.
كان يريد إيمرسون التأسيس للأدب القومي الأمريكي حدث هذا في خطاب له شهير 1833 في حشد ممن تخرج في الجامعات الأمريكية، وفي آدابنا العربية كثيرة هي الأقوال أيضاً ومن أهمها ما قاله أبو الطيبّ المتنبي في القرن الحادي عشر الميلادي:
أعزّ مكان في الدنى سرج سابحٍ
وخيرُ جليس في الأنام كتابُ
واللافت أن المتنبي يربط بين ظاهرتين: القوة (الفروسية) وبين العلم، والعلم قوة أيضاً، ولكنه يرى أن قوة العلم غير مجدية إن لم تسندها قوة الفروسية، وقد كرر المتنبي هذا في عديد من أقواله ومنها حديثه عن القلم والسيف… ولعل تفضيله للسيف هنا ناتج عن اختلال في التوازن بين القوتين اللتين أشار إليهما في بيته السابق وخاصة عندما تسلط البويهيون على مقاليد الخلافة.
وفي الذكر الحكيم إشارات عديدة إلى مفهوم الكتاب، فالكتاب هو الجامع للآيات التي أنزلها الله هداية للبشر، وقد جُمعت فيما بعد وانتقلت من الوضع الشفوي إلى الكتابي والاختلاف في التسمية مسوّغ من خلال الصفة التي تقوم في التسمية نفسها، فالكتاب والمصحف والتنزيل والذكر، كلّها تشير إلى موضوع واحد هو القرآن ولكن في أشكال مختلفة.
ويعاني عالمنا اليوم من كثرة المطبوعات، وقد أشار إلى هذا أحد الكتاب الفرنسيين المعاصرين فقال: نصف ما يكتب لا يطبع، ونصف ما يطبع لا يقرأ، ونصف ما يقرأ لا يفهم.
وهذا كلام يمكن الرد عليه، فالمسألة ليست نصفاً ولا ربعاً ولا ثلثاً، وإنما المسألة مسألة حذف واصطفاء، فالكتب التي لا تنفع الناس تسقط من السلم المعرفي، وتحيلها آلية الانتخاب إلى سلّة المهملات.
لقد أشار المفكر الإنكليزي تيري إيفلتون، صاحب نظرية الأدب إلى هذا بتساؤله مع طلابه: من هو أفضل صديق للكاتب؟ فكانت أجوبة الطلاب مختلفة وعديدة ثم أدلى برأيه وقال: أفضل صديق للكاتب هو سلة المهملات، وكان يشير بهذا إلى أن الكاتب لابدّ أن يمر بأطوار وهو يكتب يحذف ويستفيد من ثم يختار وثم يلغي وثم بعد أن يقرّ رأيه، ويشعر في عمل آخر أنه لابدّ من تجاوز العمل السابق.
وبالنسبة للاتحاد فإن الاتحاد أخذ على عاتقه تشجيع الأجيال الشابة على القراءة والكتابة، ومن هنا أخذ يرضي الأذواق العامة في مستوياتها المختلفة من دون أن يغفل أصحاب الآراء النوعية، أو أصحاب الفكر التنويري الثاقب، وبناءً على هذا كثرتْ مطبوعات الاتحاد وتفاوتت، ولكنها للكل، كما ذكر (إيمرسون) فلكلّ طبقة اجتماعية كتبها وكتّابها، للنخبة ما يرضيها، وكذلك للعامة، فمن المحال أن يكتب للنخبة كما يكتب لعامة المجتمع، وتخضع كل الكتب المراد نشرها لفحص وتدقيق على كافة المستويات من لجان مختصة من النخبة لكل جانب يراد الخوض فيه، ولا يمكن لأي كان النشر من دون الحصول على هذا التقييم.
وكانت لنا وقفة ثانية مع الأستاذ لوثر حسن صاحب دار عين الزهور للنشر والتوزيع الذي توجهنا له بالسؤال التالي: إلى أي حدّ تتحمل دور النشر بشكل عام مسؤولية طباعة وتوزيع كتب لا أهمية لها سوى إرضاء صاحبها؟
فكان إجابته كالتالي: لا يقع اللوم على دور النشر أبداً في مسألة طبع وتوزيع أي كتاب، لأن كل راغب بطبع أي كتاب يحصل على موافقة رسمية من اتحاد الكتاب وموافقة وزارة الإعلام أيضاً، ومن غير الممكن لأي دار نشر أن تقوم بطباعة النُسخ مالم تكون الموافقة المذكورة موجودة، وتبقى دور النشر وسيلة لإكمال وإتمام المهمة ليس أكثر، وباختصار المشكلة ليست من دور النشر، وفي رؤية مختصرة أقول هناك للأسف مشكلة في الثقافة ومشكلة في الهيئات الثقافية المشرفة أو الناظمة التي تقع عليها مسؤولية (مقص الرقيب) هذا المقص يسمح بما هو صالح للنشر ويفرز العمل الجيد من العمل الضحل، ليتم تبني العمل الجيد، وهنا تحضر المشكلة الثقافية الأهم وهو عدم تبني المنتوج الثقافي المحلي الجيد، للأسف بحسبة جرد بسيطة نرى أن 70% من الكتب هي ترجمات، أنا مع تشجيع الترجمات والاطلاع على ثقافة الآخر، ولكن ليس على حساب الإبداع المحلي، أدباؤنا المحليون ليس هنا من يحتضنهم، إنهم متروكون لأوجاعهم المادية وليس هناك من يتبناهم في النشر، لذلك حاولنا في دار عين الزهور تقديم نوع من الدعم للكتابات الإبداعية المميزة في كافة المجالات من خلال مبادراتنا الثقافية لنقوم بطبع وتوزيع نسبة معينة للفائز مجاناً، وفي الحقيقة تفاجأت من خلال هذه المبادرة بالمستوى الثقافي الرائع لكتّابنا المحليين على اختلاف أعمارهم من عمر 18 إلى الكبار، للأسف ليس هناك مؤسسات ثقافية تدعم وتمول المبدع المحلي، وأيضاً لدور النشر مشاكلها وخاصة من ناحية التزامات الضرائب التي تشكل عبئاً كبيراً وهي للأسف غير عادلة؟ فالضريبة على دور النشر الوطنية الصغيرة، هي نفسها مثل ضرائب الدور الكبيرة، وهذه مشكلة كبيرة إذ لا تستطيع دور النشر الصغيرة دعم المبدع لأنه يكفيها الأعباء المادية المترتبة عليها من الضرائب.
قد يكون للعالم الأزرق (الافتراضي) الدور السلبي في استقطاب جيل الشباب عبر تكليفهم بمهام وقبولهم لكافة المستويات وبإيديولوجيات قذرة وترغيبهم عبر جوائز تقديرية إلكترونية وبنشر كتب لهم وهو نوع من التغرير بهؤلاء الشباب، وهنا يأتي الدور الهام بالقيام بمشروع وطني بنيوي تشارك فيه كل المؤسسات الثقافية الكبيرة والصغيرة وحتى الأفراد ، لأن معركتنا ثقافية رضينا بذلك أم لم نرض، وما حدث في السنوات العشرة الأخيرة يؤكد على أن معركتنا ثقافية بامتياز.

مهى الشريقي

تصفح المزيد..
آخر الأخبار