العــــــدد: 9522
الثـــلاثـاء 4- 2- 2020
عندما كنّا صغاراً، وحتى نلتزم العودة قبل مغيب الشمس إلى بيوتنا، كانوا يقولون لنا إنّ الجنّ يخرج في الليل، فتقشعر أبداننا من مجرد الحديث عنه، فكيف إذا خرج لنا في الطرقات؟
(لن ننام بين القبور، حتى لا نشاهد منامات وحشة)، نعود إلى بيوتنا قبل أن يخلد الدوريّ للنوم، نضع أحذيتنا بجانب الدار، نغسل أقدامنا، نتناول طعامنا، ونسمع جزءاً من حكاية كلّ يوم، قبل أن نسلّم أجفاننا للكرى!
كبرنا بعض الشيء، وبدأنا نتحسس ما حولنا، وكان وعينا النابت فينا مثل (ضرس العقل) يؤلمنا، فالجهل أحياناً راحة وأمان..
انتبهت إلى تفاصيل ما حولي، رمقتُ أمي بنظرة فاحصة ومستغربة، كيف لعظيمةٍ مثلك أن تنجز كلّ ما أنجزته، وتربّي عشرة أبناء!
الزغب على أجنحتنا صار ريشاً قادراً على حملي، طرتُ.. طرتُ، ومن حينٍ إلى حين، كنتُ ألقي نظرة على مجاري السنين في وجه أمي، أمي التي لم توصني إلا بزوجتي وأبنائي..
وأنتِ، قلتُ لها، فقالت: أجمل هدية تقدمها لي هي ضحكتك، وضحكة عائلتك، لا تفكّر بي، فقد تكفيني أن تهبّ رائحتك بالقرب مني لأتجدد كشمس تشرق كلّ صباح..
يسألني طابور من النساء: ماذا عنّا؟
• • • •
كانت المطربة نجاة الصغيرة تصدح بـ ( يا سيّد الكلمات… إنني بسيطةٌ جداً…, وأنتَ خبير)، وكنتُ أبحثُ عن جملةً لم أقلها لأي شخص قبلك، تعبتُ كثيراً، فتّشتُ طويلاً، وعدتُ بالخيبة أتودّدُ نظرةً، علّ عينيَّ اللتين هدهما السهرُ تهطلان بحضرتكَ قصائد حبّ لا تنتمي إلى أيّ بحر.
كان حضوركَ طاغياً، وكنتُ أزداد التحافاً وغرقاً بارتباكي، أيُعقل أن أكون أوهى من ريشةٍ في مهبّ سطوتكَ؟
حين مررتَ تحت نافذتي تغيّر كلّ شيء، الـ (فوق) أصبح (تحت)، واهتزّ قانون الطبيعة فجأة، والـ (أنا) التي اعتقدتُها (لبوةً) تركت كلّ شيء متسوّلةً رفّة هدبٍ تسكبُ في عمرها نسغاً وفرحاً ودوارق تيه وجمال لا تنتهي…
أطفئْ جمالَكَ رفقاً بي، حتى لو حاولتَ أن ترفع عنّي أسرَكَ سأعود خلف قضبان رائحتك المميزة سهماً مكسوراً يداري وجعه في زنزانة توهّجك واخضراركَ…
ذات يومٍ، رسمتُ معالمكَ قبل أن أراكَ، تخيّلتكَ وانتظرتكَ، وحينَ أتيتَ كانَ هناك مَن افترشَ حياتي، لكن الروح ما زالت ظمأى، ومازالت تنتظر قطراتِ نداكَ فتغفو، أو تهبّ عليها ريحُكَ فتقتلعها!
كنتُ أخاف ألا تأتي، وكأي شجرة إن لم يجلس بظلّي أحدٌ أُحال إلى النار حطباً ووقيداً في سهرة الناعمين بالحب والانعتاق..
انتظرتكَ أن تقلّمني ولو في خامس الفصول، أن تحطّ على زندي طائرَ شوق جاب الزمن، وبلّل جنحه بخفقات المعذّبين وحكايات سهدهم، أن تتبخّر فأتلقّفكَ قطرةً.. قطرةً، أيفعل مروك تحت نافذتي كلّ هذا؟
إيه.. يا أنتَ، انظر إلى (فوق) قليلاً، إيه.. هنا على هذا (الشبّاك) تتصاعد رائحة الحريق…
• • • •
مسّدْ تجاعيد روحي، ساعدني لأفرد جناحيّ على الضوء، رشَّ رائحتك بأنفاسي، قلْ إنّك تحبّني لأجدّل شَعري من جديد…
متكبّرٌ يا سيّدي، ألا تخشى انفجار امرأة على شواطئ قلبك؟ ألا تخشى احتراق مراكب لا تبحر إلا بنبضكَ؟
أجل، أحبّك بكلّ ضجيجكَ، ولا يهمّني ما تكدّس في مخازن عمركَ من نساء، لا يُرَدّ الملهوف عن ماء أو عن شذا، لكن عندما تغمض زهرة النرجس أجفانها هي الوحيدة التي تعرف على أيّ سرّ فعلت ذلك…
دعهم يَلهون حولكَ فراشاتٍ سكرى، دعهم يتراقصنَ على جميل ألحانكَ، ألستُ أنا النايّ السابحةُ بين شفتيكَ، لو كنتُ أغار من سمعهن لحني لما أخرجته شجياً، ولو لم أكن على مقاس لحنكَ أتراني استسلمتُ لزفراتكَ..
أنا الأنثى، ألظّيكَ متى شئتُ، وأنتَ الأوحد الذي يعيد صياغتي كما يحلو له، فلا وعورتي يحرثها غيرك، ولا حنطتكَ يا (تمّوز) تُلفح بغير ناري…
سافرْ أنّى يحلو لكَ، لن تجرؤ على تمزيق أشرعتك، أو إحراق سفنكَ، فلا أنتَ طارق ولا أنا أندلسُ.. عرّج على (الزهراء)، فتّش قصور الفاتحين عن (ولّادة)، وحين تقرر العودة، حاذرْ أن يصيبكَ دوّار البحر فتتألم رأسكَ يا حبيبي وأتألم…
يومَ قلتَ إنّكَ (أحببتَ آلاف النساء) تدثّرتُ جيداً، لم أشرب الشاي في ذلك المساء، استمعتُ إلى موسيقى جنائزية، وبحضرة السهدِ شيّعتُ أثوابي الجميلة، وقناني العطر التي أهديتني إياها، وأعلنتُ الحربَ على الألوان لأنّها عجزتْ أن ترسم لي ابتسامتكَ التي تقيّدني، أو تصوغ حرفاً واحداً من كلمة (أحبّكِ) التي كنتَ تقمع بها كلّ ثوراتي وحروبي.. يا رجلي الطيّب، كثرت الثورات بداخلي، ألا تبدأ بإخمادها؟
غــانــم مــحــمـــد