صرخــة بـ «فم مغلق» للشــاعر جليــل البيضاني في دار الأســـد للثقــافة

العــــــدد: 9522

الثـــلاثـاء 4- 2- 2020

 

هو ابن (بلادي العرب أوطاني.. من الشام لبغدان) وصف بالشاعر الراقي النبيل لرفعة خلقه وإنسانيته، وانشغاله بالأصالة والتراث ليتعمق بعروضه وصوره ويصرخ بفم مغلق ومليان ما يصب في القلب صباً من غضب وحرب وحب وما يهيج في النفس بركان حمم من وجع وجمر وغربة لكن..
من يسمع صوتي؟ فلست أنا
من أفتى بجهاد النسوة
من يقتل آلاف الأطفال بصنعاء
من يتبع آثار ملوك العرب الجبناء..
وينتهي بقوله: كيف سنصرخ بفم مغلق
حين نكون عراة.. والناس آذان صماء

في حفل توقيع ديواني (صرخة بفم مغلق وغرقى في زمن العطش) للشاعر العراقي جليل البيضاني وكان أن قدمت للحفل الأستاذة منيرة أحمد وقرأت سيرة ذاتية للشاعر الكبير الذي قال في دمشق (ومن ذا الذي يأتيها ولا يتغنى بتباريحها) هي موئل كل عربي ومشتاق وشكر قائدها وشعبها وأرضها وسماءها:
دمشق هزي سماء الله غاضبة
لله درك إذ يساقط الغضب
يا راية في سماء العرب عالية
أنى سموت سيسمو الدين والعرب
دمشق إنا على كفيك أغنية وفي رباك دنان العشق تنسكب
من كل حدب أتوا . . لص ومضطرب
وفرقونا على عرق وطائفة
وما عرفنا غير هذي الأرض منتسب
وكان له عشقه وامرأته فيها ليقول للبحر الذي هي منه :
(في البحر) حيث حبيبة عمري تغتسل بموج العشق
من ذا يخبرها؟ إني أتنفس ضحكتها
وحين يباغتني الحزن
أرسم عينيها أملاً
كي يبزغ (فجر لقاء قادم)

والذي كان مع آسيا يوسف (حبيبته) التي قدمت دراسة للديوانين في البناء والمعنى وقالت: قرأت وأنا أصرخ بفم مغلق، استخدم الشاعر المبدع الواو هنا لاستدراك ما فات والصراخ هنا بالمضارع المستمر ليدل على ديمومة الحدث تعبيراً عن رفض ما، سنعرفه فيما بعد، ولماذا بفم مغلق أهو دليل على كبت حرية التعبير .. أأغلق الفم بإرادة صاحبه أم بفعل ما حدث في بلده؟
هو كشاعر لا يتبرأ من مسؤوليته ولا من ذنوبه ويوبخ ذاته العليا، إذ كيف يستطيع النوم وبلده يعاني من سطوة الاحتلال الأمريكي وكأن حلوله الفردية قد انتهت، ولهذا شعر بانتمائه العربي وقدم لتكون سورية موئله ومستقره وحضناً دافئاً يحتضن حريته الشعرية والفكرية دون أن يوبخه التاريخ فهو يحمل الوطن قضية في أشعاره وانتماء في فلبه، ويظل السؤال ملحاً ومفتوحاً: كيف سأصرخ بفم يملأه حزن الأعوام؟
الفنانة ازدهار ناصر قالت في بداية دراستها وغاصت في نفس الشاعر التي قوننتها عبقريته ونبله: أحاول أن أربط بين الديوانين لأستخلص قراءة نفسية بما كان يعتلي في نفسه من تراكمات وإرهاصات باعتبار أن ذاتية الشاعر تدور فيما يقدمه لنا كما يطفو الزيت فوق الماء وذكرت قول أنشتاين لابنته: عندما اقترحت النظرية النسبية لم يفهمني غير عدد قليل، هناك قوة قوية للغاية حتى الآن لم يجد العلم تفسيراً لها والتي تشمل وتحكم جميع القوى الأخرى وهي وراء أي ظاهرة تعمل بالكون وهذه القوة هي الحب وهي غير مرئية وهي النور و الجاذبية والله هو الحب وهو الطاقة الوحيدة في الكون التي لم يستطع الاكتشاف السيطرة عليها وهي طاقة الشفاء، والحب هو أقوى قوة ويشبه البذرة تعاني شق طريقها بين حجرتين لتعانق النور ثم تثمر لتؤدي رسالتها في الحياة دون مقابل بدافع الحب فقط .
واسترسلت في شرحها للسيميولوجيا بأنها تدرس كل ما هو لغوي وغير لغوي تتعدى اللفظ والمطلوب بكل ما هو بصري وتعطي كإشارات مرور منها : الشيفرة، الشخبطة على الحائط، لوح المسح، اللوحة الفنية، الزخرفة على ثوب والعلاقات الإنسانية بكافة أنواعها في حالات الحرب وفي حالات الحب، سيميولوجيا الشعر تتضمن تحليل النص بلاغياً ونحوياً وصوتياً لنتوصل لعمق المضمون سواء كان نصاً أدبياً أو شعراً ولا بد أن نقول إن النصيين يتباحثون في الدلالة والمعنى داخل النص الأدبي والفني شكلاً ومضموناً .أما علماء الثقافة السيميائية يبحثون عن ما بعد الهيكلية النصية والمضمون وما ورائياتها لذلك السميولوجيا تعتمد على التحليل والتركيب وتبحث عن المختلف بين الدلالات اللغوية والحالة البنيوية الدافعة للنص التي تؤدي للنتيجة.

الدكتور جليل بث من فم مغلق وغرقى في زمن العطش وكل ديوان هو مؤلف من مجموعة مفردات نسميها براديغن الأول يحكي عن الوطن والثاني عن المرأة والاثنان تجمعهما قوة الحب، وربطت الفنانة ازدهار بين الطاقة والحب لتقول: للطاقة وجهان الطاقة التي تولد في المكان نسميها الوطن والطاقة التي تتولد من حب الأنثى المرأة وهي الوطن سواء كانت حبيبة أو زوجة، وكان للشاعر موطنان توزع عشقه بينهما عشق الأرض وعشق الزوجة بلد المحبوبة، وإن المتأمل بقصائد الدكتور جليل ليرى أن فيها دفقاً لغوياً وشعورياً من خلال تراكيبها اللغوية وصورها بما حملت من هموم إنسانية، فكان أن كتب الحب المطلق عن الوطن والمرأة .
الباحث نعمان حميشة، تناول في محور دراسته الوجه السياسي والروحي عند الشاعر فقال: هو الشاعر القومي العربي المقاوم اتخذ من الشعر وسيلة لإيصال رسائله والتنبيه.
الشاعر لا يخفي تشاؤمه وأنين روحه من عقم الأمة وشل إرادتها والأمراض والآفات المزمنة التي تفتك وتنهك جسدها، يحاول أن يلهب عقول الأمة، فبعد الغزو الهمجي على العراق أزدهر الموت والخراب، والشاعر صاحب سيرة ملونة بالألم والهوى والشجن أحب سورية وشموخ قاسيونها وحورية ساحلها، وبثها قصائده المشحونة بالوفاء فقال :
أرح ركابك من وهم ومن تعب
فتلك شام الألى أهلي ومحتسبي
ما مر علج بها يبغي أعنتها
إلا وكان زئير الأسد كاللهب
وتلك راياتهم خفاقة أبداً
حمر وقائعهم في لجة الكرب
السابقون إلى العلياء يعرفهم
درب الشهادة فاقرأ أسطر الكتب
في لحظة هاربة من القهر يصهل الشوق ويدلهم به الحنين ليهرب إلى المرأة الحبيبة ملاذه الشعري والوجداني:
ويمر وجهك في الصباح ..
عذب يمر على القلوب
كأنه الماء القراح ..
يا غايتي.. ووسيلتي.. وقضيتي الكبرى ..
التي تطفو على سر مباح .

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار