حكايا الظرفاء في الحلّ والترحال.. رطــــل «تين مفـــروم» مقابــل رطــــل «زيت خريـــج»

العــــــدد: 9522

الثـــلاثـاء 4- 2- 2020

 

في كتابه الذي حمل عنوان: قبل أن تجف الذاكرة.. كوى في جدران الزمن العتيق أشار المؤلف جميل سليمان الراهب في الفصل الثالث منه إلى بعض الطرف التي كان يتناقلها بعض الظرفاء من الذين لا تفارقهم الدماثة في أحاديثهم أثناء لهوهم وجدهم، في حلهم وترحالهم مشيراً إلى قصة أحدهم ممن عبر – بطريقته الخاصة – عن مدى الأمية المتفشية والفقر المدقع والجهل المطبق الذي تركه الاحتلال العثماني لمدة أربعة قرون مظلمة مخلفاً وراءه التخلف والجهل والفقر والدمار والحطام تاركاً بصماته ماثلة في أذهان الغالبية آنذاك يذكي ذلك المتربعون على عرش السلطنة العثمانية لأربعة قرون من الظلام الدامس من تاريخ الشعب العربي حيث كان المتعلمون يلاحقون من قبل (العصملية) كأنهم من مهربي المخدرات فهم قلة يعدون على الأصابع ممن اعتلى منبراً طيلة قرون أربعة ومن ينال مرتبة شرطي في الداخلية يشار له بالبنان بين أهل قريته بل على مستوى المنطقة المحيطة بسكنه وضمن هذا السياق ذكر المؤلف (الراهب) بلسان أحد الظرفاء القصة التالية التي لا تخلو من التندر.. قال: كنت في ضيعة (دار لالا) أو (دير ليلى) عند أحد أصحابي أبادل رطل (تين مفروم) مقابل رطل من (زيت الخريج) ونحن جلوساً تحت شجرة سنديان ظليلة وارفة الأغصان نشرب بعض مغلي (الزوفا) الذي ينوب محل (الشاي) في غالبية الريف الجبلي من الساحل السوري على وجه الخصوص وإذ برجل مسن يتوكأ على عصاه وبيده ورقة قال: إنها مكتوب من ابنه أحمد المهاجر في الأرجنتين، فقد قرأها له أحد معارفه من مدينة جبلة ولكنه لم يصدق ما جاء بها لأنها مخالفة على ما أعلمه من وضع ابني، أخذ صاحبي ورقة المكتوب من يد الرجل وقص محتواها ومما جاء فيها ملأ قلب الرجل فرحاً وانشراحاً على عكس ما سمعه من الجبلاوي, ابتسم ذلك الرجل الذي بلغ من العمر عتياً قائلاً: والله عرفت من أول الأمر, من قراءته للمكتوب أنه يكذب ولا يعرف (فك الحرف) وذلك من حركات رأسه ويديه واهتزاز أكتافه.. وكدلالة على ما ذكرناه في بداية حديثنا أورد المؤلف قصة أخرى توضح ما قد أشرنا إليه سابقاً وسنلخصها محاورها في السطور التالية.. قال المؤلف الراهب: أم علي كامل وزوجها الذي أرهقت كاهله السنون المتوالية من الجدب بسبب انحباس المطر أو انصبابه في غير أوقاته حيث يكون الجفاف قد ضرب ضربته المؤلمة ومضى بالإضافة إلى ما أصاب الأسرة من عسر شديد الوطأة بعد تجنيد ابنهم البكر في الجيش السوري.. أبو علي امتطى دابته وأردف زوجته وراءه تتأبط بكلتا يديها وسطه مخافة السقوط متجهين إلى قرية بسنادا عبر الطريق الترابي الذي يصل سنجوان عبر الوادي و(سفاح الريحان) ومن ثم منطقة (جب حسن) الذي ينتهي فيما بعد عند الطرف الشرقي لمقبرة الضيعة، ولسوء الحظ زوج أم علي الذي كان يتفقد (مكتوب) ابنه علي المخبوء داخل( قنبازه) طيلة الطريق اطمئناناً على وجوده وعدم ضياعه إذ لم يكن في القرية على (حد علمه) من يجيد القراءة، قراءة المكاتب مثل الشيخ محمد أبو صالح في بسنادا وما حولها من القرى ولكن لسوء حظ أبي علي وزوجته علماً أن الشيخ يحتضر على فراش الموت فعادا أدراجهما تتعثر الكلمات على شفاههما أسفاً على ما لقياه من تعبٍ وحزنٍ على مرض الشيح الذي كان موضع احترام وتقدير من كافة الناس.. ولكن أبو حسن الذي كان حاضراً وسمع ما سمع من حكاية أم علي وزوجها وهو من الحارة القبلية للضيعة بادر قائلاً: لماذا هذا الندم والأسف؟ ابني حسن قد ختم (ربع ياسين) وهو يقرأ المكاتيب بشكل ممتاز .. وأردف المؤلف قائلاً: وما هي إلا دقائق قليلة إلا وكان حسن أمام والده الذي ناوله المكتوب وفرد حسن صفحته المطوية و(أخذ بالقراءة) بسم الله الرحمن الرحيم: سلام سليم أخف من النسيم وأحلى من العافية على قلب السقيم روحاً وريحاناً وجنات الله النعيم.. إلى آخر ما كان يسمى (بالديباجة) التي يحفظها من يكتب رسالة عن ظهر قلب وتابع حسن القراءة: أخبرك يا والدي أنا الآن في ثكنة القلعة من مدينة السويداء. أم علي وين ها لسويدا؟ وقديش بعيدة؟ إحداهن: يمكن قريبة من اسطنبول؟! وتابع حسن القراءة إلى أن وصل إلى إهداء السلامات… وأضاف المؤلف أيضاً: تلك الرسالة المدبجة ذات الإهداءات لم تكن بخط علي لأنه غير متعلم وإنما كانت بخط الرقيب عفيف السلوم.. كاتب هذه الرسالة عفيف السلوم يهدي الجميع السلامات لأهل الضيعة عموماً صغيرهم وكبيرهم.

ندى كمال سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار