العدد: 9500
الأحد:5-1-2020
لغتنا العربية صندوقٌ زاخرٌ بالكنوز اللفظية والكلمات ذات المعاني والتفسيرات والتأويلات المتنوعة، وفيها كثير من الكلمات التي تتحمّل أكثر من وجهٍ في تفسير معانيها، هذه الإشكالية قديمةٌ قدم اللغة العربية، لكنها اليوم ماتزال تطفو على السطح، مع الابتذال الزائد في تناول حروفها بغير وجه حقّ، وتحريف معانيها، والتشويه الذي يطال أسسها ومبادئها، حتى ضاعت ملامحها وتاهت أشكالها.
ولعلّ أكبر مثال على ذلك الانتهاكات اليومية الصارخة على منصّات ومواقع التواصل الاجتماعي، من استبدالها بالعامية، إلى الأخطاء اللغوية والإملائية، إلى تغيير المعنى وحرفه عن جوهره، حتى الحرف لم يسلم من تعدّياتهم، ويتم استبداله عن سابق إصرار وترصّد بأحرف ما نزلت بميزان اللغة ولا آدابها. ليس هذا وحسب إنّما تجاوزت انتهاكات اللغة أهم قواعدها، ونسفت ألف بائها إلى يائها، وأكبر مثالٍ على ذلك ما نراه ونسمعه عبر وسائل الإعلام المختلفة، من برامج اختارت عناوينها بعيداً عن لغتنا الفصحى، واستهلّت مقدّمات وخواتيم كثير منها بكلمات عامّية بحتة، رغم أن وسائل الإعلام تقع عليها مسؤولية كبيرة في حفظ كنوز اللغة، ويتوجب على القائمين عليها حفظ جهود جهابذة اللغة وآبائها وعدم الانسياق وراء موضة العصر في ترسيخ العاميّة والاستهلال بها سواء في الإعلام المرئي أو المسموع أو المقروء. ورغم القوانين الصارمة وتحديداً في بلدنا سورية، والعقوبات الكبيرة التي تلاحق كل مخالفٍ لقواعد اللغة ويستخدم كلمات أجنبية وأعجمية كأسماء محال تجارية وغيرها دون تعريب، كذلك حال الإعلانات ولوحاتها، فإنّ بعض العابثين يحاولون التحايل والتلاعب بأشكال الكتابة وفنونها، والتقليل من استخدامها. ورغم التوصيات التي يقدّمها مجمع اللغة العربية سنوياً من ضرورة أن تكون اللغة العربية، لغة تدريس في الجامعات، وترجمة الكتب العلمية والطبية والتقنية والدوريات العلمية والموسوعات إلى العربية والتأكيد على استخدام اللغة العربية الفصحى في وسائل الإعلام، فإنّ كثيراً من المخالفات تقع، طالما لا عقوبات تردع ولا محاسبات للمخالفين وسواهم. ولاشك أن القائمين على التعليم يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية اللغوية والعلمية في الحفاظ على العربية من الاندثار، وتجديدها وتحفيز الجيل الجديد على التعامل معها بأسس سليمة صحيحة، فطرق تدريس اللغة العربية وآدابها والعشوائية أحياناً في طرق التعاطي مع قواعدها وأسسها، وعدم التزام المعلمين والمدرّسين بالفصحى الصحيحة لاسيما معلمي اللغة العربية، وتساهلهم في تصويب الأخطاء التي يرتكبها الطلاب وتصحيحها وتقويمها، وقلة التشجيع على التحدث بالفصحى، وكثرة الأخطاء الإملائية والنحوية سواء في اللغة المحكية أو حتى في المناهج الدراسية، كل ذلك وعوامل أخرى لعب دوراً مهماً في الضعف والوهن اللغوي الذي نعانيه. ومما لا شكّ فيه أن الغزو اللغوي للعولمة لمسنا آثاره اليومية وما نزال، مع انتشار الإنترنت ومواقعها والانفتاح الكبير على العالم بكلّ جبهاته، والتسارع المعلوماتي الهائل، والضخّ الكبير الآني وليس اللاحق، وما يرافق كل ذلك من صعوبات في المواجهة والبقاء، لكن رغم كل التحديات تبقى لغتنا العربية منارةً تضيء عوالم الجهل والظلام، يشفع لها تاريخها العريق والحافل بجواهر اللفظ والمعنى، وتبقى من اللغات الأكثر انتشاراً على مستوى العالم، وما تتعرض له من تشويهٍ وتحريفٍ، آنيّ طارئ، لا يلبث أن يتلاشى مع أول قاعدةٍ نحوية، تعجز أصول لغات العالم كلها عن مجاراتها، دون أن ننسى أنها لغة القرآن الكريم. كما يتوجب ولزام على أهل الأدب والثقافة والفكر المحافظة عليها والمواظبة على استخدامها، وعدم الانجرار إلى الانحدار اللغوي والهاوية التي تسحبنا إليها مواقع التواصل وغيرها، بل عليهم الاضطلاع بمهامهم وما تمليه عليهم مسؤولياتهم الأدبية واللغوية في مواجهة تحدياتها وتذليل عقباتها وصعوباتها، فالتحديات كبيرة جداً لكن الإرث المعرفي واللغوي للعربية يحميها ويصونها ضدّ أيّ تعديات أو تحريفات.
ريم جبيلي