العدد: 9488
الخميس:12-12-2019
العقول هي ساحات الحرب الحديثة، وإذا كانت الرصاصة قادرة على قتل أسر فإن الكلمة قادرة على قتل مجتمع بأكمله محيط عربي اجتماعي يتفكك ويتمزق يوماً بعد يوم بفعل الغزو الفضائي والانفجار المعرفي الفائق المتسارع غير المضبوط الذي يؤدي إلى العمى الفكري والضمور القيمي والتردي الثقافي والمعرفي وتكاثر أعداد العاطلين عن الفهم.
الثقافة الخفيفة، ثقافة الوهم وصناعة التزوير التي يحصل عليها الإنسان دون عناء من وسائل الإعلام المفبركة ووسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، وهي الأكثر انتشاراً في عصرنا الراهن والمجتمعات العربية غير محصنة وعاجزة عن حماية ثقافتها وتراثها، شركات عالمية عابرة للقارات تعمل بخبث ودهاء لفرض ثقافة القوة والأقوى ونشر قيمها بالاتكاء على التقنيات الحديثة ودراستهم المتقنة لكل تحركاتنا ورصد واقعنا وسلوكنا فكريا لشل العقول وتشتيت الشعوب وتحريكها كأحجار الدمى على رقعة الشطرنج الدولية.
الثقافة الخفيفة لا تشكل عمقاً أو بعداً معرفياً ولا تساهم في توليد أفكار جديدة، بل هي معركة خفيفة خبيثة استخدمت فيها كل أسلحة الكلام ذي الدمار القبيح لتهميش الثقافات المحلية عبر ضخ إعلامي كبير مستمر بدهاء ولا هوادة لنشر المشهيات الغربية صاحبة الجاذبية والبريق الخلاب لنيل الرفاهية المقترحة والديمقراطية الزائفة والمتاجرة بالأحلام الوهمية للفقراء والتعساء ليسقطوا في أفخاخها وبراثنها، ثقافة تمشي كالسلحفاة على الأرض وتتغلغل كالسرطان في الأجساد في استلاب ناعم للعقول، تتسلل بصمت مريب إلى مفاصل الجسد والمجتمع بعبثية فكرية واجتماعية وأخلاقية للاستحواذ على وقت الإنسان وصرفه على مواقع التواصل الاجتماعي والشاشات في ملهاة ضارة بلا هدف أو غاية لتعفين الواقع الاجتماعي العربي وتحويله إلى عصر البغض والحقد والكره والانتقام والعنف والتطرف والجهل والحروب والموت والانحطاط والقبح واغتيال العقول وانهيار القيم وتحويل الشباب إلى مفخخات عبر القدح والذم والقذف والهتك والتشكيك والمغالطة والفبركة والخيانة والتخوين.
الثقافة الخفيفة، إبرة تخدير سطحية تميت الروح وتشكل خطراً على الهوية والانتماء الوطني، وصار المواطن العربي يقتل مرتين، مرة بسبب الجهل ونقص المعرفة، ومرة بسبب تغوّل المعرفة والزيف والفوضى والتردي والخلط العشوائي بين المعلومات وضياع البوصلة عن الاتجاه الصحيح للحاق بعصر السرعة والاستعجال الذي يعمد إلى إلهاء الأجيال واغتصاب وقتها بما تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي بلا غاية أو هدف التي نمت وتجذرت بفعل ثورة الاتصالات واستفحال ظاهرة التصفح والقراءة السريعة التي لا تصل بصاحبها إلى عمق الأشياء والجوهر والمعاني، والاكتفاء بالاطلاع على السطح دون تحصيل أي معرفة مفيدة، قراءة شكلية ضحلة لا تخلق معرفة بل تنتج فكراً هزيلاً وضحلاً ومعرفة زائفة بلا غاية أو هدف والحياة في صمت ذهني مطبق.
الثقافة الخفيفة هدفها خواء العقول وتدمير الإنسان والمستقبل والأوطان، يصنعون ويغرسون معرفة من قبيل الزيف والوهم لتدمير وانهيار سلسلة القيم الاجتماعية التي كانت تشكل سنداً في الملمات وأنيساً لضيق الأرواح عندما تداهمها الوحدة واللجوء للانعزال الفردي والأسري وضعف البنيان الاجتماعي، والعشرة الإلكترونية سحبت البساط من تحت العشرة الحقيقية وصارت المشاعر الإنسانية حبيسة المشاعر الإلكترونية باردة، وجوه وتحيات وقبلات كرتونية جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع، وصرنا في الوطن العربي كأننا نضع أيدينا على عيوننا ولا نرى إلا ما يراه الآخرون لنا والطريق الموحل الذي يريدون أن نسير عليه.
المنافسة شرسة وحامية الوطيس بين الحقيقة والوهم، والخير والشر والصدق والكذب، نريد مواطناً لا يرتوي من العلم والمعرفة ويسعى جاهداً لإرواء ظمأ روحه من الثقافة والأدب والفكر، علينا تعرية الواقع الثقافي الموبوء وكشف خباياه، وتعرية المستور من تشوهاته وحشر الظلام في الزاوية الضيقة ليعبر النور إلى الحياة، فإلى متى سنظل عاجزين عن استيعاب وسائل الحضارة وتسخيرها لصالحنا؟
نعمان إبراهيم حميشة