العدد: 9484
الأحد: 8-12-2019
هل هي ثلاث حكايا حقيقةً فقط؟!، أم أنها الحكاية الأوحد للإنسان ومعاناته مع الحاجة والفقر، وكل التداعيات التي ترتبط معهما، وصراع المبادئ في فلك البقاء… وهل يحكي هذه الحكايا مسرح الحياة ويبوح بها، أم تبقى حبيسة الروح تهادن الوجع، إنها حكايانا المتنقلة على مساحات من الأرض، يتغير الإكسسوار لنمط في هيكلية الدول، لكن المعالم الحقيقية هي واحدة، وخط الإنسان في مرتجاه واحد في عيش كريم يليق بإنسانيته.. يوم الأربعاء الماضي وعلى مسرح دار الأسد باللاذقية، قُدّم عرض مسرحي بعنوان (3حكايا)، هو أشبه بمواجهة للذات مع الذات الإنسانية بعمومها، وهو أقرب إلى محاكمة، نحاكم أنفسنا وضمير الأنا والغير في تقلبات المواقع واختلافها، ليكون الفقر هو الداء الأخطر على الإطلاق في هذه المواجهة، وللبشرية قولها الفصل فيه…
(3حكايا) مسرحية واقعية حد الوجع السريالي الواضح في المعالم البهلوانية للباس والماكياج والديكور على المسرح الذي يتضمن عربة وحيدة توحي بمسير عجلة الزمن على دراجة هوائية، هي ذاتها عربة الحياة عندما تحملنا ونحمّلها زادنا، وخاصة في مرحلة من التواجه الحقيقي للعالم مع نفسه في قضيته الوجودية الأساسية وهي العدالة بكافة أوجهها التي تغيرت معالمها عبر التاريخ لكنها لمْ تتغير في مبدئها الأوحد، خاصة في وقت يزداد فيه الفقر والظلم والاستغلال في العالم ويزداد معه القهر والإحباط والانكسارات، في هذا المضمار تدور أحداث الحكايا التي قدّمها الفنان أيمن زيدان برؤية تحمل جرعة كبيرة من الجمال والشفافية فقد وظّف كل إمكانيات مقدور عليها في خدمة الإضاءة الثابتة بشكل يطبع ضوء الفقر والبؤس، كما تواجدت الموسيقى بدلالة تشير للمغزى الحياتي المناسب، فكانت بإيقاع على دفّ في مرحلتيّ البداية والنهاية، مع شخصيات تتغير بلبوسات تعبر عن وجوهنا نحن، في مهارة تمثيلية فنية كسرت الحاجز بين خشبة المسرح والجمهور، ومقولة بداية العرض ونهايته (نحن ممثلون) إنما تدلّ على أننا نحن الممثلين في هذه الحياة بأدوار متعددة.
تبدأ أولى الحكايا التي تقص حكاية ضعفنا وانهيار الإنسان أمام مقاومته لظروفٍ أمام جوعه، ولتدور الحياة مع حكاية أخرى، على دراجات هوائية وضمن حركة النص تستمر الحكايا مع القصة الثانية والثالثة عن نص أجنبي للكاتب الأرجنتيني (أوزوالدو دراكون) وفي حقيقته هو ترجمة عالمية مؤدلجة بالفطرة مع معاناة كل البشر في انهزام القيم الأخلاقية والإنسانية أمام العوز والفقر، الذي يشتد ألماً في انكسار الإنسان وخاصة في القصة الثالثة عندما تضطره ظروف الفقر لأن يقبل بأن يتحول إلى كلب حراسة عند مشغليه، لتبتدئ عملية ترويضه ومراحل قبوله والعيش ككلب، بختام فشله عندما يحاول الرجوع إلى إنسانيته والوقوف والانتصاب بقامته وخلع ثوبه هذه المسرحية هي مرآة للحقيقة البشرية، بكل الصور التي تراكمت وتتراكم عبر رحلة هذا الإنسان، تكشف بشاعة الانكسار والهزيمة أمام الجوع، هذا من المنطلق الإنساني، أما من منطق الحياة فربما كانت المقولة تختلف عندما تكون شريعتها شريعة الغاب، إنها الحياة .. ويبقى الإنسان فيها محور السؤال!!
وكما الحياة نفسها بتبادل الأدوار كان للممثلين تتابع على خشبة المسرح لخدمة الفكرة، مع إيقاع منضبط ودقيق في حركة الممثلين، حيث معهم قَصُر الزمن جداً حيث اتسمت هذه المسرحية بشغف المتابعة عند جمهور كثيف غصت به المدرجات، وتحولت حركات الممثلين إلى نبض حقيقي يماثل الوجوه الحاضرة المرتسمة في تلك الأمسية.
حول تكييف النص ومقاربته على خشبة المسرح، كانت لنا لقاءات مع صناع هذا العمل، الذي هو من إعداد محمود الجعفوري بالتعاون مع أيمن زيدان الذي قام بإخراجها، عاونه في الإخراج وشارك في التمثيل خوشناق ظاظا، مع حازم زيدان ولمى بدور، وقصي قدسية ومازن عباس وفي جانب من الكواليس…
*حازم زيدان وهو ابن الفنان أيمن زيدان سألناه: الفقر وإشكالياته في صهر الناس ومتغيراتها، كيف تراه من منظورك كإنسان وكفنان؟
** الحقيقة هذه المعادلة بين الفقر والإنسان هي مستمرة لا تنضب، حيث يأخذ أشكالاً عدة وطرقاً وأساليب عديدة، لكن في المحصلة كل التناولات تصب بحصيلته الإنسانية، فمن الضروري أن نتناوله دائماً لأنه الهاجس اليومي، وما قدمناه اليوم يتميز بالأسلوب ومجموعة الشخصيات التي تناولناها، والتيما التي تجمع كل هؤلاء البشر مع بعضها، وكما لاحظت التنوع الذي قدم فيه العرض وأحداثه من مهارات مختلفة بالتنقل بين الشخصيات حيث اتسمت بالحيوية ولعب حقيقي على إدارة في العرض، ورغم صعوبة العمل بهذه الصيغة إلا أننا كنا سعداء بما قدمناه، ونتمنى أن يكون قد أمتع الجمهور ولامسهم.
* فيما قدمتموه اليوم، وجدنا الإنسان المهزوم، أين الإنسان القوي، وأين الإرادة في قهر القهر والوجع؟
** هنا قدمنا الإنسان المغلوب على أمره والمتورط في مناحي أخذته بعيداً، لأنه ضعيف أمام تحديات مؤلمة، ربما يكون هذا الضعف هو المحفز للقوة، لأنه يخفف من وطئه على الآخر، أحببنا في هذا العرض أن نترك الإنسان بوجعه ومعه.
قصي قدسية الذي يقدم في هذا العمل عرضه الثاني مع الفنان أيمن زيدان ضمن عروض أخرى عدة له تجاوزت الـ 17 عملاً..
* عرض جميل قدّمَ اليوم، لامس الجرح الإنساني عموماً والمحلي خصوصاً، أين الأمل في ظل هذه الانكسارات؟
** إنه السؤال الصعب الذي ما زالت البشرية وأنا أبحث عنه، حقيقة لا أعرف، طبعاً الأمل موجود دائماً، العرض هو هكذا، مجموعة نصوص أراد الفنان أيمن زيدان تقديم رؤيته ضمن هيكلية ما في الحكايا الثلاث، أما بالنسبة للأمل والفرح فهما موجودان لكن نحن لم نحسن إيقاظهما.
* انهيار المبادئ والقيم أمام الفقر والجوع في هذه الحكايا الثلاث التي تلخص حكاياتنا، أنت كشاب سوري وفي ظروف إنسانية ضاغطة على سورية وعلينا كيف ترى هذا الأمل؟
** الاحترام الإنساني لنا كبشر هي على رأس الأولويات، كل البشر على سطح الأرض تحتاج إلى جرعة من الحقوق، مع تقديم الواجبات طبعاً، لضمان عيش كريم باقتصاديات قوية، تبعد شبح العوز والفقر حيث يكون الأمل بها لمحي انكساراتنا، فالهم هو واحد في مجتمعنا والمجتمع الغربي والعالمي، هو هم إنسانيّ واحد رغم اختلاف أشكاله، ونحن هنا في هذا العمل صوت الإنسان على مساحة العالم.
* عندما يقال بأن المسرح أبو الفنون، هل المقصود به أنه الحامي والحاكم والمحاكم للذات؟
** المسرح هو أبو الفنون لأنه مرآة يطرح الواقع بطريقة مفننة، وكما رأيتم اليوم، طُرح الواقع بطريقة فنية أخذت أشكال عدة من الأقنعة والديكور والماكياج.
* مازن عباس الذي قال لنا عندما سألناه: لمقولة المسرح في طرح المشاكل الإنسانية، كيف تتم المقاربة في طرح تلك الهموم؟
** الأكثر قرباً للإنسانية هي هذه الفنون المرئية، المسرح عندما يجسد حالة شخصية من شخصيات الناس، تظهر حالة من التطهر بذات الممثل والتلاحم بوجعه الذي هو وجعه، وخاصة حالات البؤس التي لا تتجزأ عند الشعوب، وأنا كفنان مسرحي أول ما يخطر لي هو المتعة، ومن ثمّ يأتي انصهار الذات مع أو ضد الشخصية المطروحة، وهذا العمل مع الفنان أيمن زيدان، هو كأنه مدرسة تعيد الممثل وكأنه للتوّ قد تخرّج من المعهد ولأنه يقحمنا في عدة أنواع مسرحية أولاً، وعدة قصص ثانياً، وكأننا نجتاز ورشة عمل جيدة سيدها هو الإنسان.
* تطويع النص الأجنبي مع النص العربي في صور بؤس إنسانية، كيف يتم ذلك وعبر أي آلية؟
** البؤس ليس له جغرافية ولا حدود، فالفقير هنا هو نفسه في أيّ بقعة من الأرض وفي أيّ بلد في العالم، وحتى بالنسبة لي لم أشعر أنه نصّ غربي، فالبائس هو نفسه في كل الأمكنة والأزمان، وكما شاهدتم في القصة الثالثة هناك جرعة مأساة عالية عندما يقبل ذاك البائس أن يصير كلباً.
* هل يمكن أن تتفاءل بأن ينتهي البؤس من عالمنا؟
** أبداً، لن ينتهي، لأن الإنسان يتعامل بشريعة الغاب، وأراه مخلوقاً شريراً بالمطلق، خلق حياة بائسة، وعبر التاريخ هذه هي المقولة.
* لمى بدور الأنثى الوحيدة في هذا العمل، والتي تجسد دور الزوجة في الحالات الثلاث في العمل قالت لنا: في هذا العمل المسرحي والذي قدمتم فيه انكسار الذات أمام الجوع والفقر، بالمجمل الظروف القاهرة تحبط الإنسان أكثر مما تدفعه، من منظورك هل هناك أمل ليكون العوز حالة دافعة أكثر منه انهزام؟
** الخسائر واقع موجود بالحياة الإنسانية، وضعف الذات البشرية أمام ذاتها كبير، ولكن أنا مع الدوافع التي تقهر الألم، والدوافع التي يمكن أن تعطي بادرة للفرح، والمواجهة مع الذات في هذه الحالات القاسية يجب ألا يخسر فيها نفسه، لكن بالواقع مع الفقر والبؤس كيف يمكن للإنسان أن يخرج منهم، هذا هو السؤال الأصعب دائماً، رغم إيماني العميق بمفهوم الخيار، كل ما نصادفه في الحياة أغلبه يخضع لخياراتنا. * دورك في هذا العمل، دور المرأة الدافع للعمل، الذي كرس مزيداً من القهر في حالاته، أين دور المرأة الفاعلة، المؤثرة في تقديم الحلول الحقيقية للخلاص؟
** في هذا العمل هي الدافع والثقل على الرجل في خيارته التي قادته إلى ما وصل إليه، لكن هل كانت تعرف أنه سيصل إلى ما وصل إليه، بالتأكيد ليست المسبب، ولا تقبل بنهاياته المؤلمة.
* خوشناق ظاظا ممثل ومساعد مخرج في هذا العمل قال لنا:
** العرض قام على مجموعة كراكتيرات، ومجموعة شخصيات تجسد من قبل الممثلين وبالطبع الممثل يجب أن يمتلك مجموعة أدوات يستطيع أن يوصل الشخصية التي يقدمها ويطرحها، والعرض هو فكرة ومقاربة وممثل في النهاية، والصعوبة هنا في هذا العمل المتغير الشخصيات المسرح دون خروج وبأقل من دقيقة، يحتاج إلى الكثير من التركيز والانتباه والفصل بين شخصية وأخرى، وأتمنى أن تكون قد وصلت الفكرة ونالت الاستحسان.
* كيف تعاملتم مع النصوص، والطرح لفكرة إنسانية عامة هل ساعدت في ذلك؟
** برأيي نعم لا يوجد نص عالمي ونص محلي في قضايا البؤس والفقر، فإشكاليته هي نفسها وصراعها هو نفسه، لذلك كنا نعمل ضمن مفاهيم إنسانية بحتة، وهذا هو العرض الخامس لي مع الفنان أيمن زيدان وهي تعتمد على حالات إنسانية وتناقشها، ولكن يعالجها بشكل مسرح شعبي، وهنا التميز بطريقة وكيفية طرح المعاناة للجماهير، مع التركيز على أدوات الممثل واستغلالها في العرض المسرحي المقدم. * كيف وجدتم جمهور اللاذقية اليوم؟
** العاصمة لا تحتكر إلى الجمهور المسرحي أو الثقافي، الجمهور الثقافي والمسرحي موجود بكل المحافظات وعلى امتداد الوطن بكل منطقة منه، وهذه رؤية عن الفنان أيمن زيدان بتقديم العروض المسرحية في كل مكان ببلدنا، خاصة أن الجمهور متعطش للفنون عامة وللمسرح خاصة، وجمهور اللاذقية جمهور مهم جداً، واكتمال الصالة اليوم بهذا الحضور إنما يدلّ على عمق رؤيته وثقافته.
* ومع الفنان أيمن زيدان كان الختام حول العمل وما يطرح:
** قدمنا هذا العمل اليوم على مسرح دار الأسد باللاذقية وهو العرض الثاني، حيث قدمنا هذا العرض في دمشق أولاً، نحن اخترنا مسرحية لثلاثة نماذج من الناس البسطاء الذين يعانون من تحديات الحياة وضغوطاتها وتوصلها إلى أماكن غير مشتهاة بالنسبة لهم، فأحببنا أن نقدم هذه النماذج ضمن بوتقة صراعاتها من وجع الإنسان البسيط وانكساراته بصيغة مسرحية تخصنا مع اقتراحنا، نتمنى أن تكون هي الصيغة التي استطاعت أن تلامس الناس وتكون إليهم، من مواضيع تخص هؤلاء المسحوقين، لأنني أعدّ المسرح أشبه بمحامي أو مرافع أو صوت لكل البسطاء، أتمنى اليوم أن نكون قد نلنا إعجاب هذا الجمهور الذي أبهجنا وأتحفنا بحضوره، ونأمل أن تبقى الأبواب مشرعة للمسرح لأن المسرح فن عظيم ومؤثر، وأن نقدم عليه كل مُنجز وحيّ.
* لماذا لم نرَ في هذا الطرح المسرحي إلا الهزيمة أمام الفقر، لماذا لم نرَ الإرادة التي تهزمه؟
** الفقر يكسر ويهزم، لا أعرف إذا كان في التاريخ إنسان أقوى من الفقر، وأنا لا أظن أن هناك من هو أقوى من الفقر، الفقر يكسر أيّ صرح إنسانيّ، ومحاربة الفقر هي قضية أساسية في كل الأنظمة والمنظومات العادلة . *- هل أنت متفائل بإنسان يقوى على الفقر؟ – أتمنى ذلك وهو مشروع مشرف وكريم يحتاج إلى شغل وجهد، هو مشروع لا يأتي من السماء هو مشروع سياسي اقتصادي كبير والحديث بهذا الموضوع أمر معقد يحتاج إلى تضافر قوى وعزيمة كبيرين، هنا في هذا العمل نطرح حالة الفقر وما يصنع بالإنسان، حيث يذل الأرواح ويشلّ الطاقات، حيث هو الهمّ المقلق الذي نطرحه ونضيء عليه دائماً.
سلمى حلوم