فجــــر الطــــين

العدد: 9478

الخميس:28-11-2019

لن أستنجد بأحد، إن فعلت، سيقولون إنني خرّفت وسيخبرون أولادي، وهؤلاء لن يرحموني من عتابهم القاسي. 

ابني الكبير، بحجة عطفه عليّ، سيجد مبرراً لسوقي معه إلى المدينة، وأنا أمقت السُكنى هناك بعيداً عن أرضي وبيتي.
بيتي… آه كيف لي أن استدل عليه في هذا الظلام الدامس، كل ما أنا فيه أستحقه، مالي ومال مواعيد الري الظالمة، دائما يفوتنا ري الغراس لأنهم يخصصون لقريتنا ريّاً ليلياً، وولدي لا يأتي إلا نهار العطلة، أردت أن أفرحه بما سيدهش به، لذلك قررت أن أتحدى سنواتي الثمانين، أتكئ على عصاي لأسقي الغراس المجاورة لبيتي… لكن (قلب رأسي) بهذه الظلمة اللعينة، فقدت الإحساس بالاتجاهات، بتّ أشرق وأنا مقتنعة أنني بطريقي الصحيح غرباً، عدت أبحث بنظري الضعيف عن بصيص ضوء يعيدني، يا لسخرية القدر فقد تهت بأرض أعرف ذرات ترابها ذرة ذرة.
أغدو وأجيء مرات ومرات، أتبع رائحة الأرض، للأسف ليس لأشجارنا رائحة، بل أنفي شاخ ولم يعد يميز حتى رائحة النعناع، إذن لأصغي للماء قليلاً، الليل بارد وقاسٍ لكنه هادئ، قد يساعدني بسماع تدفق الماء الذي يثلج صدري، نسيت أني فقدت الكثير من سمعي، ألا يكفيني ما سمعته طوال عمري، بقي أن أتلمس الطين، يداي ستعرفان كيف تسبر دروب الطين، حيث انفلت مني الخرطوم الوقح وكاد أن يرميني أرضاً، أسند ظهري المحني إلى صخرة.. قضيت عمري وأنا أنقّي أرضي من الصخر، إذاً أنا لست بأرضي فأرضي كقطعة إسفنج، كنت أقول لأولادي افترشوها، هي أحنّ عليكم من أسرّتكم، سقى الله تلك الأيام بحلوها ومرها…
أقسمَ يميناً معظماً ألا أبيت تلك الليلة ببيته، كما أسماه.
ـ اخرجي من هنا أيتها الغبية، بيت أهلك أولى بغبائك، وكان ذلك عقاباً لي لأنني أضعت المجرفة.
توسلت إليه أن يسمح لي باصطحاب ابني الرضيع، لكنه أبى، فالغضب كان قد أودى بعقله.
جررت خيبتي، وانكساري، وتركت قلبي مع ولدي، هممت بالنزول بدرب يوصلني إلى أهلي، لكن بكاء ابني أعادني لأدور حول صوته.
يحاول إسكاته، يروح ويجيء به، وأنا أراقبه من طاقة صغيرة، يقربه من مصباح الكاز، كي يلهيه عن جوعه بمراقبة لسان اللهب، يمتد خياله على الحائط كمارد كبير، قلبي ينعصر ألماً عليهما، كاد الولد أن يغمى عليه من شدة البكاء، لم يعد قلبي يحتمل، مددت يدي من الطاقة، وصرخت صرخة أسكتته وأجفلت زوجي.
ـ ناولني إياه أرضعه ثم خذه إلى سريره..
ـ أنت هنا، قالها بصوت متهدج، لمَ لم تذهبي لأهلك؟
ـ خشيت أن يتناولوك بسوء إذ علموا أنك طردتني ليلاً..
ـ أصيلة أنت، تعالي ادخلي..
ـ ما عاذ الله أن أكسر لك يميناً، هات الولد أرضعه وأبات ليلتي هنا..
أذكر يومها، بكى زوجي بشدة، للمرة الأولى أرى دموعه، كان طيباً، وسريع الغضب لكن دموعه عزيزة.
ليلتها، تسامرنا حتى الفجر، وكانت نسائم الفجر محملة بحب وحنان، لم ينقطع إلا بوفاته.
لم أكن غبية، كما أني لست خرفة الآن، ها أنا أذكر كل هذه التفاصيل، لكن توهني الظلام، وقتها فعل ضوء القمر فعله، ورأيت ما أحببت بعيون زوجي، لكن لا قمر ولا ضوء الآن، ولا عيون تعتذر، التيار الكهربائي مقطوع وكل الأواصر مقطوعة، وقد لا يأتي ولدي.
بزغت خيوط الفجر، فبانت أخيلة الأشجار من حولي، أعرفها جيداً هذه غرسها زوجي، وهذه غرستها بيدي، وتلك الغراس الفتية لابني أظنها ارتوت، ها قد استوت بوصلتي لكن ضاع عكازي، فرحت أحبو، بدأ الدم يتخامد بأوردتي، جف حلقي شعرت بالإنهاك وبألم شديد في قلبي، إذ غاصت قدماي ويداي بالطين ولا سبيل للفكاك منه، أسلمت رأسي للوحل، آخر ما لمحته كان الدرج الموصل إلى باحة البيت، كان قريباً جداً، لكنني الآن مغروسة وعليّ أن أنتظر إلى أن تجف الأرض كي يقتلعوني، ولا زلت انتظر شمساً، ويداً.

صديقة صديق علي

تصفح المزيد..
آخر الأخبار