كـــان ياما كـــان .. والحكــــاية الشــــعبية

العـــــدد 9465

الإثنين 11 تشرين الثاني 2019

 

 

من منا لم يغفُ على حكاية الجدة أو الأم ؟؟ و عبارة كان يا ما كان، من منا لم يسافر في عوالم الحكايات ويبني أحلاماً يستند فيها على شخصيات خيالية، وأماكن لا نعرف إن كانت موجودة أم لا؟ من منا لم يتسأل يوماً عن مدى صدقها أو إمكانية تكرارها في عوالمنا الحقيقية الواقعية الحالية ؟؟

الحكايات التي طالما لازمتنا في مراحل حياتنا وكانت تأخذ أشكالاً متنوعة، وكل نوع منها يؤثر فينا على اختلافها بطريقة مغايرة عن الأخرى . الحكاية شكّلت مرحلة من حياتنا واستحوذت على مكان ما في أعماق ذاكرتنا، غرفنا منها بين الحين والآخر، وقصصنا بعضها على أطفالنا قبل النوم، واستندنا إلى بعضها الآخر في بعض الأعمال الدرامية التي حولت حكايات تربينا عليها إلى أعمال فنية استمتعنا بمشاهدتها سواء كانت برامج أطفال أو مسلسلات أو برامج ثقافية أو حتى بعض الفنانين الذين رسموا شخصيات خيالية اتكأوا في رسوماتهم على أفكار خيالية كانت في غالبيتها مستوحاة من حكايات غير محددة الزمن، وإذا ما انتقلنا بالحديث عن الحكاية الشعبية نرى أنها: فن من فنون الأدب الشفهي، هذا الفن الذي انتقل إلى صفحات الكتب وخلدته في كثير من تأريخها لهذا الفن الذي لم ينحصر في مكان ولا بيئة ولا زمان .والحكاية تُعرف على أنّها قصة تقليديّة، أو أسطورة مشهورة لثقافة مُعيّنة، ويتم نقلُها شفويّاً من جيل إلى آخر، وغالباً ما تحتوي هذه الحكايات على دروس وعبر يُمكن الاستفادة منها في الحياة، ونظراً لتوارثها عبر الأجيال، فإنّ تفاصيلها وأحداثها تكون قابلةً للتغيير حسب الزمان والمكان لتُصبح أكثر ارتباطاً مع الواقع والبيئة المُعاصرة لها.
وتوجد أنواع مُختلفة من الحكايات، منها الخُرافات: هي قصص مُختصرة، وتنتشر في جميع الدول، ويتم نقلها من جيل إلى آخر عبر الكلام، وعادةً ما تحتوي على مواقف غير عاديّة، وخارجة عن المألوف، وتكون مُعظم شخصيّاتها من الحيوانات والنباتات التي تُمنح صفات إنسانية كالقدرة على التحدُّث، وقد تحتوي على شخصيّات خارقة للطبيعة وليس لها مثيل في الواقع. الحكايات الطويلة: هي قصة مع عناصر غير حقيقيّة، ظهرت لأوّل مرّة في الأدب الأمريكي الشعبي، وتُستخدم في المُسابقات الشفويّة، وتكون شخصيّاتها مزيجاً بين الواقع والخيال. الحكايات الخيالية: وهي قصص تحتوي على شخصيات تقليديّة وشعبيّة لكل دولة، وغالباً ما تكون مُخصّصةً للأطفال، ويتم تدوينها بهدف تناقلها، وتكون مُعظم شخصيّاتها من العفاريت، والجن، والعمالقة، والتماثيل.
الأساطير: هي سرد قصصي يشرح الظواهر والمواقف، والتغييرات التي طرأت على العالم والبشر، والحكايات الشعبية هي جزء لا يتجزأ من وجدان كل الشعوب الإنسانية، فلا توجد ثقافة أو حضارة إلا و كان هناك وجود لتلك الحكايات، وهي حكايات قصيرة تحتوي على عناصر خارقة للطبيعة، كالسحر والجنيات والعمالقة والأقزام والمخلوقات الأسطورية المختلفة، كما تنطوي على الحكم والدروس الأخلاقية وتتمحور في الغالب حول الصراع بين الخير والشر، وكانت هذه الحكايات تروى شفاهياً وتنتقل من بلد إلى بلد مع التجار والقوافل، وكل شعب يتبنى حكاية شعبية كان يقوم بتغييرها وتطويرها بحيث تتناسب مع ثقافته ومخاوفه وتطلعاته، وقد لاحظ الجامعون تكرار نفس الحكاية في ثقافات مختلفة بصيغ متعددة. يقول الكاتب شوقي عبد الحكيم: لا ريب أن أدبنا العربي عبر عصوره المتتابعة من زمن العصر الذى سبق ظهور الإسلام إلى الأزمنة الحاضرة وما بينهما، قدّم مادة خصبة من الحكايات الأصلية في تراثنا العربي، وتعد من أغنى المصادر الأدبية حكايات الجن والخرافة والأسطورة، التي أمتعت بمضمونها الثري المتنوع، وبشخصياتها غير الطبيعية وغير البشرية الأجيال المتعاقبة من الأطفال العرب. ومن أشهر حكايات التراث العربي، ألف ليلة وليلة، وحيّ بن يقظان، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، وكليلة ودمنة، وغيرها من النوادر والأمثال الوعظية، وتولدت موضوعات جديدة عن أصول تلك الحكايات العربية الراقية، فمن الموضوعات التي أذاعتها ألف ليلة وليلة، ومكنت لها في عالم الأدب موضوع الرحلات، وأوحت قصص السندباد إلى كثير من كتاب الرحلات في الغرب أن يكتبوا رحلاتهم أو ما يتخيلون من رحلات، كذلك أحيت ألف ليلة وليلة موضوع أدب الحيوان، فأصبحنا نجد الكثير منه، وخاصة في أدب الأطفال والصبية، وكان الفضل في إبرازه بصورة جيدة يعود إلى قصص ألف ليلة وليلة، وهي من أهم المنابع الأولى في التراث العربي، التي تحوى فيما تحوي نماذج عجيبة وغريبة ومثيرة في الأفكار والشخصيات والسرد على ألسنة البشر والحيوان والطير والجن والشياطين وبساط الريح وغيرها، وتضم أصول كتاب ألف ليلة وليلة العديد من القصص الخيالية والطريفة والنادرة، وهي في مجمل دلالاتها الفنية تعبير عن الخيال الخصب في الأدب العربي.
وكتب مـصطفى الصـوفي في كتابه حـكايات شــعبية حـمـصـية: إن الحكاية الشعبية من أهم جوانب الأدب الشعبي الذي يصور بدقة واقع حياة الشعب من عادات وأعراف وعقائد وفنون، الذي نتعرف من خلاله على طباع ونفسية وصفات حياة أفراد المجتمع وأخلاقهم ومعاناتهم، وتصور جوانب من حياة الناس اليومية الثقافية والسلوكية، وتقاليد الأفراح والأحزان، والأعياد والأغاني، والأهازيج، والعدّاويات، والدبكات، والزي الشعبي، والمسكن والعادات والمعتقدات وغيرها ممّا توارثته الأجيال على مر التاريخ حتى وصلتنا كما نعرفها حالياً، فالتراث يمثل كل المأثورات والخصائص التي تشكل الشخصية القومية الوطنية للإنسان العربي في حقبة ما من تاريخ الأمة.
وتشير الدراسات إلى أن الموروثات الشعبية ذات أصول قديمة وجذور موغلة في التاريخ، يعود تاريخها إلى آلاف السنين، لكنها تعرضت للتغيير والتبديل والحذف والإضافات لتتناسب مع التطورات الاجتماعية والثقافية والدينية والبيئية، فحافظ الناس على ما يناسبهم وتركوا ما لا يلائمهم وأضافوا إليها من ثقافتهم المعاصرة ما يريدون .
في الوقت الحاضر نجد أن معظم الصور والمظاهر التراثية بدأت تتلاشى وتندثر مع الزمن، وتوقف العمل بها منذ أكثر من ربع قرن نتيجة التطور الاجتماعي والثقافي والحضاري والتقني الهائل، في الحياة الاجتماعية، وظهور وسائل الإعلام الحديثة من تلفاز وإذاعة، وصحف وكتب واتصالات، عملت جميعها بقوة على إزاحة الموروثات الشعبية والمظاهر التراثية، عن مكانتها فأهملها الناس وتخلوا عنها، وانتفت الحاجة لممارستها والاستمرار فيها. فالأولاد لم يعودوا يتحلقون حول الجدّة، لتروي لهم حكاياتها الجميلة الساحرة بعد أن حلّت (الشاشة الصغيرة) محل الجدّة كجدّة حديثة متطورة، إضافة إلى كتب ومجلات الأطفال الأدبية التي أصبحت أكثر ملائمة لعقلية الطفل، وثقافته ونفسيته وطموحه، كما أن عادات وتقاليد الأعراس والمناسبات لم يعد بالإمكان ممارستها، والعمل بها بعد التطورات الاجتماعية، والاقتصادية في الريف والمدينة من زحمة العمل، وضيق الوقت والمسكن والساحات، وانصراف الناس إلى اهتمامات أخرى معاصرة، كل هذا أدّى إلى إلغاء مظاهر الأعراس الشعبية، والاحتفالات العامة للناس، وحلّ محلّها الحفلات في الصالات المغلقة المزدحمة والألحان الصاخبة، والرقص الفردي لعدّة ساعات، ثم تنتهي الحفلة بأن تسير قافلة العرس إلى الفندق أو بيت العروسين وانتهى الأمر. أما أطفال «الحارة» فلم يعد بإمكانهم ممارسة ألعابهم الشعبية القديمة التي تحتاج إلى ساحة واسعة، وبيئة طبيعية مناسبة، فحلّت محلّها الألعاب الرياضية والملاعب والأندية. كما أن انتشار العلم والوعي غيّر كثيراً من المفاهيم والقيم، والمعتقدات فابتعد الناس عن العمل بالسحر والرقي والحجب، والعلاج بالوسائل القديمة واندثار صور الجن والغيلان والوحوش الخرافية من الخيال والذاكرة الشعبية، لتتحول عقلية الناس نحو العلمية والواقعية والمادية الملموسة، ومهما كنا متفائلين فالحقيقة أن عصر التراث الشعبي قد احتُضر وانتهى، ولم يعد يهتم أحد به سوى الدارسين والباحثين، الذين يعملون جهدهم لجمعه من ذاكرة الجيل القديم، أو ما بقي عالقاً منه في أذهانهم، ويقومون بتسجيله وتوثيقه وتحليله، ومضي ربع قرن آخر من الزمن كاف لأن يتلاشى ويختفي نهائياً من الذاكرة.
وكما توقف عصر العمل بالتراث الشعبي وممارسته، توقف أيضاً عصر ابتداع التراث الشعبي، فالإبداع مرتبط بالخيال الذي يستمد مادته من الأساطير، والصور الغريبة والشخصيات الخرافية، والشعور بالعجز عن الفهم، وتحقيق الطموح والغايات الحياتية الصعبة، فالخيال الشعبي كبّلته القيود الهائلة من الإنجازات العلمية، والحقائق الكونية والاكتشافات الطبيعية والأدوات التقنية المتطورة، فلم يعد الإنسان الحالي بحاجة للتفكير بالغيبيات والمعجزات، والحلم ببساط الريح والفانوس السحري وطاقية الإخفاء وغيرها، وهو يرى أمام عينه الطائرة والسيارة والتلفزيون، والمراكب الفضائية، والطب الحديث الذي كشف معظم الحقائق المستورة وهتك ستر العتمة، وكشف عجز القوى الخرافية أمام الأسلحة المتطورة والقنابل الذرية، وبعد أن فضح كذبة حورية البحر وجمال ست الحسن وشاعرية القمر، فسحب من تحت الخيال الشعبي بساط التحليق، والانفعالات والعواطف وسلاح الرومانسية والإثارة والرغبة والحب. و يظل رأي الكاتب يمثل شخصه ورغم أن فيه الكثير من الصحة إلا أن للحكاية الشعبية ألقاً لا ينطفئ وكما ذكرنا بداية فإن الاستناد عليها في الأدب وجعلها لبنة أساسية لبعض الأعمال الأدبية والفنية يؤكد حضورها رغم الزمن الذي مر عليها وإذا ما اتفقنا أنها أصبحت أمثالاً هذا دليل آخر على قوة تأثيرها، فالحكاية الشعبية هي اختزال للقصص الشعبي العالمي والعربي، تتأثر بطبيعة كل مجتمع تتواجد فيه وبخصوصيته، محمّلة بتجارب وحكم الأجيال، ومن هنا جاءت قدرتها على تصوير الأحداث والمغامرات، الواقعية، الغرض منها الوعظ والتعليم من جهة والتسلية والإمتاع من جهة أخرى، ولذلك حرصت جلّ المجتمعات القديمة على الاهتمام بها.
والحكاية الشعبية رغم بساطتها إلا أنها أكثر الأجناس قدرة على تصوير تفاصيل الحياة بمراحلها وتعدد مواضيعها، تعدّ الحكاية أحد الوسائط التربوية في الفولكلور الشعبي لها فلسفتها في العملية التربوية إذ تعد أحد الوسائل التي لجأت إليها المجتمعات منذ القديم في التنشئة الاجتماعية. علينا المحافظة عليها بأن نجمعها ونوثقها بلهجاتها المحلية حتى لا تفقد الحكاية روحها وانتماءها البيئي والثقافي.

رواد حسن

تصفح المزيد..
آخر الأخبار