تعاضـــــد

العـــــدد 9465

الإثنين 11 تشرين الثاني 2019


 

هناك في طرقات القرية المختبئة خلف كتف هضبة، كنت أسير بشغف طفلة، يسبقني الأمل ويرافقني الحنين، كنت عائدة مما قبل التاريخ لأذوب في اخضرار قرية والدتي.
لم أشعر بمرور الزمن على تلك الطبيعة التي مازالت عذراء لم تعبث بشعابها وممراتها السرية أيادي الحضارة الآثمة، مازال السبيل للوصول إلى أرض جدي تسلقاً عبر الصخور، إنني أعرفها شبراً شبراً، فلطالما لعبت على تلك الصخور مع أولاد أخوالي وخالاتي، وقطفت أزهار بخور مريم وصنعت سلالاً من تلك الزهور الصفراء التي لم أحفظ اسمها يوماً، لكنها كانت تشبه الأقحوان.
للخريف في هذه القرية نكهة سحرية، إنها مزيج من كل شيء، شقاء وحزن وحب وإرهاق.
كانت خطواتي تكبر وتزداد ثقةً كلما عرفني أحد أهالي القرية ورحب بي:

* مرحباً بك.. ألست ابنة جميلة؟
اقترب مني رجل أحنت سنواته السبعون ظهره وقد غطى رأساً خلت من أي شعرة بقبعة قديمة: مرحباً يا حفيدة قريتنا..
لم أعرفه، لكن أجبته: مرحباً بك..
الحرارة مرتفعة والشمس تتوسط السماء.. وأنا واقفة بحزن أتذكر سنوات قليلة مضت رافقت والدتي لنعزي أبا حسام باستشهاد ولده حسام وعائلته بعد ما استهدفت منزلهم في دمشق قذيفة إرهابية غادرة، لقد استشهدت العائلة كلها، كان السواد والحزن يلفان القرية لفقدان أسرة كاملة مهندس ومعلمة وأولادهما الصغار، ربما نجا طفلهما الأصغر الذي كان في عامه الثاني ولم يكن قد عاد من الروضة بعد.
كم هو قدر قاس، ربما الحزن على عائلة ولده تسبب له بالمرض الخبيث، يا الله ما أقسى هذه الحياة وما أغربها!
مرّ وقتٌ قبل أن أصل الكرم العالي حيث كانت عائلة خالي تحاول عبثاً أن تلملم حبات الزيتون في هذا الموسم الشحيح، وكان أبو حسام قد سبقني وجلس يشرب الشاي بينما أشار إلى طفل يلعب مع أولاده قائلاً: هذا ابن ولدي حسام رحمه الله..
كان طفلاً أسمر نحيلاً جميلاً كيوم نيساني ينظر بعينين حملتا زيتاً في لونهما أكثر مما حملت أشجار خالي، لكنه كان (أصلعاً)، يا الله ما هذه الكارثة، هل السرطان وراثي؟ الجد والحفيد.. ما هذه المأساة يا ربي؟
أطبقت أشجار الزيتون كلها على صدري وغاصت بين أضلعي بألف طعنة وطعنة، ما الذي قادني ﻷزور قرية والدتي اليوم، إنها جولة عمل في مناطق ريفية محددة، فلماذا ضعفت عندما لمحت اسمها يشرق على المفرق الجبلي وانعطفت إليها بسيارتي؟
ألا يكفيني ما أصادفه كل يوم من أحداث وكآبة، جئت أطلب الراحة فما لقيت إلا اليأس، هل توقفت الدنيا عند هذه العائلة، ألا تكفيها المصائب؟ وقبل أن أغوص أكثر في بحر جنون من الإحباط جاء شخص آخر أعرفه، إنه حسن شقيق حسام ، لا.. لا هذا لا يصدق، سارعت إليه قبل أن يصل إلينا:
حسن، ماذا هناك، ماذا يحدث، أين شعرك الجميل، ووالدك، وابن أخيك، ماذا جرى لكم؟
ضحك حسن قائلاً: مرحباً بك، دعيني أسلم أولاً وأضع كيس الزيتون هذا عن ظهري..
انتظرت ريثما أنجز ما قاله ووقف يلتقط أنفاسه المتسارعة، ثم وبصوت منخفض متقصداً ألا يسمعه الطفل الصغير حدثني قائلاً:
نتيجة النزوح الكبير من المحافظات، وتضخم أعداد الطلاب في المدارس، حيث صار الأولاد يجلسون كل ثلاثة أو أربعة معاً، انتشرت عدوى القمل في مدرسة القرية وأصيب ابن شقيقي بها، فطلب المدير من الأهالي أن يحلقوا للأولاد حلاقة كاملة كحل جذري للموضوع، لكن الصغير حسين بكى بحرقة شديدة لأنه يحب شعره الأشقر الجميل ولا يقبل أن يضحي به، فما كان من والدي إلا أن عرض عليه أن يحلق شعره معه، ولم يكن ذلك كافياً له، فشاركت معهم في الصفقة، وترافقنا إلى الحلاق الذي أعجبته الفكرة وشارك معنا لأن ولده أيضاً كان مصاباً بالعدوى، لذلك إن بقيت لساعة أخرى ستشاهدين حالات مماثلة كثيرة في القرية.
هناك، في كروم الزيتون في قرية والدتي المختبئة خلف كتف هضبة، شربت الشاي مع عائلة خالي وأقربائهم، وكانت أصوت ضحكاتنا تعلو وتعلو وتزيل أية كآبة وتغسل من القلوب صدأ السنين الهاربة.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار