العدد: 9462
الثلاثاء: 5-11-2019
عرفته صياداً ماهراً منذ كنت تلميذاً أسكن مع أسرتي في بيت يجاور البحر، وحتى اليوم فهو يتعلم أساليب وطرق جديدة في الصيد، على بعد عشرات (الكيلو مترات) من المدينة.
بمصادفة صادمة، التقيته يوم أمس وأنا مندهش لما بين يديه من أدوات، ولدى سؤالي عن أحوال صيده، أجاب بالنّفي، ثم أضاف: الأسماك القليلة الباقية تمردت على الصيد، وهو يطاردها بكل الوسائل، فتارة بالشباك وأخرى بقصبة صيدٍ حديثة، وأحياناً بالغوص مع بندقية صيد بحري وبصحبة أقفاص يزرعها في القاع.
وهكذا فللصيد تكاليفه ومتاعبه وهمومه، لكن سعادة الأمل موجودة، كم هو جميل حين يتحول إلى حقيقة، ولو بنسبة الواحد في المئة.
كان يقول دائماً: نحن نقتل الأسماك ولا نصطادها!
بتلك الإجابة، شعرت وأنه قدم لي ألف إجابة، بل وألف سؤال عن مستقبل بحر شبه خاوٍ من الحياة التي يجب أن تكون، ورحم الله أديبنا (حنّا مينة) الذي جعل من هواء البحر ونسائمه رئةً ثالثةً لكلِّ قارئٍ، وجعلَ لكلّ صبيةٍ فستانها الذي يملأ المناسبات زرقةً ووضوحاً.
لستُ بصدد التقديم لذلك الأديب الرائع، ولكن حين شحّ عدد القراء في هذه الأيام، شحّت معها موائد السمك، واقترن وجوده مع النجوم الخمس للرفاهية.
أعرف صديقاً كان لقبه (إبراهيم البحر)، وقد أمضى جُلَّ عمره بحّاراً يتنقّل بعمله من سفينةٍ تجاريّة إلى أخرى، وقد جاءنا بذكرياتٍ لا مثيل لها، وكان بارعاً في وصفه، حتّى كدنا نظنّ بأنّه ذاكرة للبحر كلّهّ!
في أيّامه الأخيرة، توفّيت زوجته وفقد أولاده، وملاذه الوحيد هو الجلوس على مرتفع قبالة البحر ومعه أدوات صيده البسيطة، والتي لم تكن تغنيه في أحسن الأحوال عن وجبة سمكٍ تكفيه وحده.
لكنّه كان يقول: ألتقي هنا مع ذكرياتي وكأنّها مشهدٌ حيٌّ لا يتوقّفُ.
ذات يومٍ وجد نفسه معزولاً بجدارٍ أخفى معه ما هو أزرق.
لم تقنعه المبرّرات التي منعته من زيارة البحر في ذلك المكان.
ومع مرور الأيّام، ذبل ويبس كمن اقتلعت جذوره، ثم وافته المنيّة، وبعدها قيل بأنّ (إبراهيم) وبحره قد غرقا في البرّ البعيد.
سمير عوض