سـمير خالـد حميـدي في اللاذقيـة وتحـت ظـلال مسـاءاتها

العـــــدد 9440

الأحــــد 6 تشرين الأول 2019

 

إذا كانت الموسيقى وحياً يعلو على كل الحكم والفلسفات كما يقول بيتهوفن، وإذا كانت الموسيقى في الوقت نفسه مرآة وحضارة الشعوب كما يقول كونفوشيوس، فهي في كل الحالات والأزمان وبين كل الأفعال والأقاويل والوصف عالمٌ كونيٌّ هائلٌ في إحساسه اللامتناه ودقّته المبهرة وتميّزه اللامحدود والأجمل أنها مظلتنا في هذا الكون التي تَقينا من أنفسنا ومن آلامنا وحتى من أفراحنا العبثية الهلامية ضمن عالمنا المعقد المتشابك، هذا العالم الذي جعل الروح الإنسانية تائهة في مداراتها، يعتريها صداعٌ دائمٌ من صخب وضجيج مما عملناه بذاتنا وبالحياة، وللحياة لكن، استكانة واستراحة وهدنة من هذه السريالية العجيبة، على دروب ومسالك جمعت فيها عوالم من نقش إنسانيّ وروحي، مزهوّة بترابيتها على طرقها السالكة أبداً، تتناغم وتصطف، تنتظر بعضها عند ال (دو) و(ري) و(مي) و(فا) و(صول) و(لا) و(سي) و(دو)، لا تغتال ولا تغتاب ولا تقتل، بل تغسل بطهرٍ كلّ ما انهمر علينا نحن من تواريخ وتواريخ مؤلمة، تعيد رسم الحياة وتشكيلها فيناً، تمحو كل الصور الضبابية وتجلي الأبصار لنقاء تلاحم مع الروح في قدسيةٍ مهولة امتدت منذ أول ظهور للأرض وللإنسان وحتى يومنا هذا.. ومنذ الأزل وليومنا هذا مازال هناك تعداد فريدٌ من الذين ما زالوا ينيرون الشمس في نهاراتنا ويضيئون القمر في ليالينا، وما زالت بصماتهم تنقر بهدوء وبصدق نادر على أبواب قلوبنا، تُعيد وتردد وتنشد غناءً يطرق بوابات هذا العيش.. لذا كانت وستبقى الموسيقى الملاذ الذي نهرب إليه كثيراً وكثيراً، نسرقها في يومنا في أيّ لحظة وتوقيت ،لتظل الحلم الذي نسابق به أرواحنا لنلاقيه بشغف لا يشبهه شغفٌ، نلاقي بها نهاراتنا الكفيفة المتعبة.. في حالة فريدة من نوعها في جماليتها وحسّها الراقي، تشهد اللاذقية في مكان يقارب البحر كثيراً بكل عنفوان ويصافح شاطئه، تحتضن الموسيقى في أبهى عناقٍ، تطلق نجومها للسماء، فتضيء علينا واحدة واحدة، تنهمر عبر كلّ لحن يُقَدّمه أحد الموسيقيين الراقيين في إصداحٍ صوت النغم الأصيل عبر عزفٍ على آلة (الأوكورديون)، نغم مسائي شفيف لوّن الأماسي بلون الحبّ، هذا الحبّ الذي هو أسمى وأقدس حلم ومرتجى وأمل لإنسايتنا..وبحبٍّ ومهنية وفنّ يقوم الموسيقي الفنان سمير خالد حميدي بتزيين هذه الليالي التي طال ظلامها بلون الفرح فتزغرد المساءات وترتدي أثواباً مزركشة، تغني معها الساعات ،تغلب تعيد ترتيبها، لتهلّل هذه اللحظات الهاربة وتستكين.. في أحد شوارع اللاذقية الجميلة وعلى طريق الكورنيش الغربي قبضنا على لحظات ليست هاربة بل مقصودة، صافية من كلّ شائبة، وبطلب من نجمة مضيئة استعارت لنا تضيء هدنة للقاءٍ مع حديث وشجن وروح شفيفة حاورتنا على إيقاع النغم الأصيل فقال لنا:

 

* بطاقة تعريفية عن الفنان الموسيقي سمير خالد حميدي، كيف كانت البداية مع النغم؟
** كنت في صف الرابع الابتدائي، انتسبت لمدرسة طلائع البعث وبدأت بأخذ دروس للنوتة الموسيقية بشكل عام وبتمارين خاصة لآلة (الأكورديون) بشكل خاص بمساعدة الأستاذ القدير رشيد صباغ، استمريت بمدرسة الطلائع للمرحلة الإعدادية، بعدها انتقلت لمنظمة شبيبة الثورة، لأستمر بدراسة النوتة والاشتراك بأكثر النشاطات والفعاليات الموسيقية والمهرجانات على مستوى القطر، طبعاً اشتركت بمسابقات وأحرزت المركز الأول على مستوى القطر العربي السوري لثلاث سنوات، مرتان بطلائع البعث ومرة بالشبيبة، بعدها انتسبت لفرقة النادي الموسيقي بقيادة الأستاذ القدير فهمي الشغري هذا الأمر صقل موهبتي بشكل كبير، لأستمر بالعزف الحر والنشاطات الفردي إلى اليوم عبر الانترنت وكثير من المواقع والاستماع المكثف للأغاني وتنمية السماعي.
* يقال إن صوت الموسيقى يأتي من السماء بفضل عازفين على الأرض كيف تقيم الموسيقى ودورها في إحياء الروح؟
** الموسيقى غذاء الروح، فالموسيقى تقوم بتنمية الحس الزمني والإيقاعي الداخلي لدى العازف وتقوم بصقل الإحساس وتنشيط الدماغ والذاكرة وهذا ينعكس بشكل أو بأخر على الطبع الإنساني لدى العازف وإحساسه وقدرته على التعبير بوضوح عن مكنوناته الداخلية وأحاسيسه المتنوعة سواء بالعزف على الآلة الموسيقية أو باللغة أو بالإيماء الجسدي.
* إذا كانت الموسيقى هي هوية الشعوب، ماهي هوية الموسيقى السورية؟
** الموسيقى لغة العالم، وبنفس الوقت لغة الشعوب، أي أن الموسيقى قادرة على صهر العالم ببوتقة واحدة وتشكيل نسيج متجانس من التفاهم الروحي لدى الشعوب، وبذات الوقت تعبر بشفافية عن عادات وتقاليد ومشاعر وطباع كل شعب على حدة، وبالنسبة للموسيقى السورية فهي هوية شعب عظيم ومحب وخلوق، شعب معطاء ومحب للحياة ويعرف كيف يعيشها بأفراحها وأتراحها، شعب عميق الفهم ولطيف بالمشاعر، وهذا لا ينفصل بتاتاً عن موسيقانا السورية المعبرة عن الأرض وتلاحمنا عضوية وحضاريا بها، باختصار الموسيقى السورية تنضح بالحياة السورية الخصبة لشعب أحب الحياة وعرف كيف يعيشها.
* كيف تترجم الموسيقى الواقع، وكيف تقوى بقوته وتنحدر بضعفه؟
** الموسيقى مرآة عاكسة لصورة الواقع بالفعل، فهي تتأثر به وتؤثر فيه وتعبر عنه بمنتهى الشفافية، الموسيقى برأيي هي جزء لا ينفصل عن الواقع، بل هي الجانب الغير مرئي للواقع والذي يكون عادة أكثر صدقاً ووضوحاً.
* هل اختلف الإنسان العربي المستمع، أم اختلفت الموسيقى؟
** الإنسان هو الإنسان والموسيقى هي الموسيقى، ولكن المعاني اختلفت والمضامين، اختلفت المشاعر وطرق التعبير، وأساليب التعبير، اختلف إيقاع الحياة نفسها والشعب العربي برأيي يعاني من حالة من الضياع والتخبط بالأحاسيس، خصوصاً الجيل الحالي، فما نراه جميلاً منذ عشرين سنة مضت قد يكون أقل جمالاً بتقدير الجيل الحالي وهكذا.
* يقال إذا أردت أن تتعرف على أخلاق الشعوب، استمع إلى موسيقاها ماهي أخلاقنا العربية برأيك؟
** أنا مع هذا القول بالفعل، والموسيقى العربية تتميز بأنها موصل دقيق لأخلاقياتنا العربية المميزة فهي تحمل معاني الأصالة والعشق، يظهر هذا من خلال الرتم البطيء نسبياً للموسيقى العربية على عكس الموسيقى الغربية الصاخبة إلى حد ما، والمعبرة عن الحياة المادية البحتة التي يعيشها الغرب، مع كل التقدير للموسيقى الغربية بإبداعها الموسيقي وما صدرته للعالم فهو مازال باقياً وسيبقى.
* يقال: إن الموسيقى الغربية كانت حرة مكتوبة بالآلات، بينما موسيقانا العربية مرتبطة بالصوت، ماذا تقول في هذا؟
** من المعروف بالعلم الموسيقي بأن الموسيقى العربية أوسع وأكثر قدرة في التعبير عن خلجات الروح من الموسيقى الغربية، وذلك لوجود (الربع تون) والذي تفتقده الموسيقى الغربية وهذا الأمر جعل الموسيقى العربية أكثر قدرة على التعبير وأكثر قدرة على الارتباط الشديد بالصوت البشري والآلة الموسيقية الشرقية على حد سواء، مثل العود والقانون و.. و.. وطبعاً الموسيقى الغربية تتميز بأنها ذهنية أكثر وتثير صوراً أكثر بالذهن، ولكن بالرجوع إلى مقول (الموسيقى غذاء الروح) نجد أن الموسيقى العربية أكثر ارتباطاً وتناغماً مع الروح والمشاعر الإنسانية وبكافة أحوالها، هذا رأيي . .
* ونحن في بلد أول نوتة موسيقية، هل ما زالت النوتة بروحها تصبغنا، أم قد تهجنت أم غضبت منا وغادرتنا؟
** النوتة الموسيقية برأيي هي عملية مهمة لحفظ الإبداع الروحي، ونحن بلد أول نوتة موسيقية بالفعل اسمها (أوغاريتيا)، اكتشفت مكتوبة برموز معينة على حجر، وتم عملية ترجمتها لنوتة موسيقية بالرموز الحالية، وهذا يدل على الاهتمام الموسيقي وتدوينه بوطني سورية، أما للشق الثاني من السؤال فأظن أن النوتة أصبحت شبه مفقودة بهذه الأيام، وقليل من يعتمد على النوتة بالعزف، مع العلم أن النوتة الموسيقية هي الأساس، وأنا مع التقيد بالنوتة الموسيقية ومحاولة إضفاء الطابع الشخصي عليها للتخلص من الرتابة الموسيقية أو العزف بجمود.
* بين العولمة والحفاظ على التراث، ما هو دور الفنان المثقف في هذا الحال العابر للحدود الجغرافية؟
** الموسيقى هي المهد الأول لظهور مفهوم العولمة، الموسيقى جعلت العالم أكثر اتصالاً مع بعضه البعض وأكثر انفتاحاً على بعضه، وحملت الموسيقى بنفس الوقت تراث كل شعب وتراث كل بلد، وكان لها دور في نقل هذا الإرث عبر القارات متخطية للحدود الجغرافية أنا أحاول كفنان أن أقوم بالمحافظة على تراثي السوري، وتسليط الضوء عليه مع تحديثه وصبه بقالب أكثر تطوراً وحداثة من قالبه القديم، وأتمنى من الله أن أكون قد وفقت في ذلك.
* يقال: لا تبحث عن الأخطاء ولكن ابحث عن العلاج، العلاج بالموسيقى كيف يترجم برأيك؟
** الموسيقى لغة العالم وغذاء الروح والعلاج بالموسيقى كان يستخدم قديماً ومازال بالعصر الحديث، وكان لي الشرف بتجربة متواضعة في هذا الميدان، من خلال (جمعية سوق الضيعة) حيث كنا نقوم بنشاط إنساني في مشفى تشرين والعلاج بالموسيقى تحت شعار الموسيقى هي الحل، لدى مرضى السرطان، وخاصة الأطفال فكنا من خلال العزف والغناء والرقص أحيانا نضفي جواً من المرح ونحاول قدر المستطاع أن نشغل الأطفال المرضى عن مرضهم وكانوا يتفاعلون معنا ويبتسمون ويمرحون.
* الفن الحقيقي هو القادر على قهر الموت كما يقال، كيف يمكن للنغم أن يسافر بالروح ويحييها؟
** الموت حق، وأنا أؤمن بأن الموت ليس فقط انفصال الروح عن الجسد، فمن الممكن أن نرى حالات روحية معينة تشبه الموت بل وأكثر من الموت، إن اليأس والملل والانشغال الذهني لأكثر شباب جيل اليوم يمثل حالة واضحة من حالات الموت، أردت من خلال تجربتي المتواضعة (العزف بالطرقات والحدائق العامة والشوارع) أن أقول: إن الموسيقى هي حياة، الموسيقى قادرة بالفعل على إعطاء لون جديد للحياة، وقادرة على قهر الموت واليأس، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وأتمنى أن تصل رسالتي وأن أوفق في ذلك، وبالمناسبة أنا كنت أخدم بالجيش العربي السوري (خدمة احتياطية)، وكنت أعزف على آلة الأكورديون مع رفاق السلاح، وكان الأكورديون برفقتي دائماً، فكان يدفئنا في ليالينا الباردة والحارة، يخفف عنا ضغط الظرف القاهر الذي مرّ على بلدنا الحبيب.
* عندما نعجز عن الكلام نلجأ إلى الموسيقى، كيف تحضننا الموسيقى؟
** الموسيقى تتعامل مع الأرواح، وهنا أقصد كل الأرواح ليس البشر فقط، فأثناء العزف على الأكورديون أشعر بأن القطط تستمع إليّ والطيور وهذا الأمر حقيقي، فالموسيقى تجمع بين جميع الأرواح والمخلوقات، فكيف لا تجمع ما يفرقه الكلام بين البشر.
* وقوفك الجميل في أماسي اللاذقية الشفافة ما أردت أن تقول فيه، ما هو دور الموسيقى، في زمن لسورية الحبيبة صدح فيها صوت مؤلم للحرب والدم، وكيف يمكن أن تغسل الجراح؟
** الموسيقى ترجمان حقيقي للواقع بفرحه وألمه وكل تفاصيله، وهي تعبر بقوة عنه وتؤثر فيه وتتأثر به وأنا أرى أن الموسيقى وقفت موقفاً قوياً في هذا الزمن الذي صدح فيه صوت الحرب والألم والدماء، فكانت الموسيقى تعبر أحياناً عن هذا الواقع وتصوره كما هو وكانت تعبر من جهة أخرى عن الواقع المقابل لهذا الواقع بحيث ينسى الشعب ألمه وحزنه ويتحلى بالقوة لمواجهة هذه الحياة، وهذا الموضوع أمر به شخصيا في كل مرة أحمل الأكورديون وأذهب لأعزف في الشارع، فيصدر عني أحياناً عزف ممزوج بالحزن وأحياناً عزف ممزوج بالقوة والعنفوان وحب الحياة، هذا هو الواقع بمتناقضاته أتمنى من الله الأمن والأمان لوطني الحبيب سورية وأتمنى أن يلتئم الجرح ويعم السلام، وأنا متفائل جداً، وأرى واقعاً جميلاً يتعالى فيه صوت الموسيقى والفرح بكل الطرقات والأماكن.

سلمى حلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار